English  

كتب فلسفة اللغات

اذا لم تجد ما تبحث عنه يمكنك استخدام كلمات أكثر دقة.

عرض المزيد

فلسفته في اللغة (معلومة)


ماهية اللغة

ابن جني هو أوَّل من بحث في ماهية اللغة من اللغويين العرب، ومع ذلك فقد كان تعريفه للغة دقيق إلى حدٍّ كبير، ويشمل معظم جوانب اللغة من منظور علم اللغة الحديث، ويشابه تعريف العلماء المحدِّثين، يقول ابن جني عن اللغة في "باب اللغة وما هي": «[هي] أصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم». ويشمل تعريف ابن جني على الكثير من المزايا، فهو أولاً يصف اللغة بدقَّة عندما يعتبرها أصواتاً، وهو أمرٌ يحرص عليه علماء اللغة، ويكتب عبده الراجحي أنَّ هذا التحديد في تعريف اللغة لم يوجد حتى العصر الحديث، ومن المهم معاملة اللغة باعتبارها صوتاً حتى يتسنَّى التفريق بين اللغة كنظام من الرموز الصوتيَّة والدلالات التي ترمز لها، وتتكرر الإشارة إلى رمزيَّة اللغة عند ابن جني في قوله: «وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيصفوا لكل واحد سمة ولفظا، إذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز من غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين». وينتقد تمام حسان تعريف ابن جني لأنَّه ركَّز على الجانب الصوتي ولم يُشِر إلى أنَّ اللغة عبارة عن منظومة رمزية من الأصوات، ما يجعل تعريفه أقرب إلى تعريف الكلام منه إلى اللغة. واستعمال ابن جني للفظة «يُعبِّر» كان مُوفَّقاً، لأنَّ التعبير والتوصيل هما الوظيفتان الرئيسيتان للغة، ويتعرَّض ابن جني في هذا التعريف لوظيفة اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعيَّة تخدم أغراض المجتمع وشؤن أفراده الحياتيَّة، ولفظة "القوم" ترادف المجتمع في مصطلح العربية التراثية، وهذا يدلُّ على مستوى الوعي اللغوي الذي وصل إليه ابن جني، وقدرته على خلق نظرة واقعيَّة نحو اللغة باعتبارها شكلاً من أشكال السلوك الاجتماعي. ويرى عبده الراجحي أنَّ ابن جني كان على صواب عندما وصف اللغة أنَّها تعبير عن الأغراض، بدلاً من النظرة التقليدية بأنَّها تعبير عن الأفكار، لأنَّ استعمال اللغة يتعدَّى الأفكار إلى استعمالها في نواح اجتماعيَّة تكاد تخلو من التفكير بمفهومه الدقيق كالصلاة والدعاء والتحية والغناء.

أصل اللغة

احتدم النقاش بين الفقهاء المسلمين حول أصل اللغة وهل هي من وضع الإنسان أم أنَّها وحي رباني إلى آدم أوَّل البشر، واضطلع بعض اللغويين في هذا النقاش، وتناول ابن جني آراء المتخالفين وفصَّل فيها في "باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح"، غير أنَّه لم يتخذ موقفاً صريحاً بهذا الشأن، وبعد عرض آراء المتخالفين يقول ابن جني: «غير أنَّ أكثر أهل النظر على أنَّ أصل اللغة إنَّما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف»، ويعتمد من يقول أنَّ اللغة وحي وتوقيف على الآية من سورة البقرة: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [...]»، ويفنِّد ابن جني هذا الدليل، قائلاً أنَّه لا يناقض القول بوضع اللغة، فمن الممكن تأويل الآية بأنَّ الله أعطى الإنسان ما يمكِّنه من وضعها. ويستنتج عدد من الكتاب من المواقف السابقة لابن جني أنَّه رفض القول بأنَّ اللغة وحي وتوقيف وذهب إلى أنَّها تواضع واصطلاح. غير أنَّ هناك نصوص أخرى تُظهِر أنَّ ابن جني ظلَّ يتردَّد بين الموقفين، فيقول: «واعلم فيما بعد، أنَّني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات الغوُّل على فكري. وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر. فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده وبُعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه. وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل، فقوَّى في نفسي اعتقاد كونها توفيقاً من الله سبحانه وأنها وحي»، ثُمَّ يتابع ويقول: «ثُمَّ أقول في ضُدِّ هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبَّهنا؛ على تأمُّل هذه الحكمة الباهرة، كذلك لا نُنكِر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا - وإن بعد مداه عنا - من كان ألطف منا أذهاناً وأسرع خواطر وأجرأ جناناً. فأقف بين تين الخلتين حسيراً وأكاثرهما فأنكفيء مكثوراً. وإن خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به وبالله التوفيق». ويذكر في موضع آخر أنَّه يجيز الموقفين كليهما، فيقول: «قد تقدَّم في أوَّل الكتاب القول على اللغة أتواضع هي أم اصطلاح وحكينا وجوَّزنا فيها الأمرين جميعاً».

ويذكر جلال الدين السيوطي في "الاقتراح في أصول النحو" أنَّ ابن جني لم يقطع بأصل اللُّغة ووقف حائراً أمام المذهبين. ويرى تمام حسان أنَّ ابن جني لم يتخذ موقفاً من هذه القضية واكتفى بوصف المسألة وطرح آراء المتخالفين وأدلَّتهم. ويرفض فاضل السامرائي القول أنَّ ابن جني اعتقد بوضعيَّة اللغة، ولكنَّه يرى أنَّه مال إلى المذهب الوضعي أكثر. بينما يرى عبده الراجحي أنَّ ابن جني لم يتردَّد بين الموقفين، ويكاد يجزم أنَّه رفض القول بأنَّ اللغة وحي، ويشير إلى منهجه في التعامل مع اللغة في مؤلفاته، من بينها "الخصائص"، باعتبارها نتاج تواضع مجموعة من البشر الحكماء واتفاقهم على رموز صوتيَّة بعينها، وإن كان هذا التصوُّر يخالف المنهج العلمي، فهو يدلُّ بوضوح على أنَّ ابن جني ذهب إلى أنَّ اللغة ليست وحياً وإنَّما مصدرها هو تواضع البشر. ويعدُّ مصطفى صادق الرافعي ابن جني مع أستاذه الفارسي ضمن مناصري المذهب الوضعي. ويكتب إميل بديع يعقوب أنَّ ابن جني، رغم أنَّه لم يصرِّح بوضوح، إلا أنَّه آمن أنَّ اللغة تواضع واصطلاح كما يظهر من مؤلفاته.

تطوُّر اللغة

رفض ابن فارس مبدأ تغيُّر اللغة مع الزمن وتطوُّرها وتأثُّرها باللغات الأخرى، لكونه يتناقض مع اعتقاده الصارم بكونها وحياً، كما يتناقض مع اعتقاده بأنَّ القرآن لا تدخله ألفاظ غير عربية. أمَّا ابن جني فقد كان أكثر تحرُّراً، وتقبَّل فكرة تطوُّر اللغة عبر الاحتكاك باللغات الأخرى، وأشار إلى كيفيَّة انتقال الألفاظ الأعجمية إلى اللغة العربية، وما يصاحب تعريبها من مظاهر كإعرابها ودخول آل التعريف عليها والاشتقاق منها. ويؤكِّد ابن جني على تطوُّر اللغة وتغيُّر ألفاظها ودلالة ألفاظها مع الزمن، فيذكر أنَّ هناك أدلة كثيرة «تدلُّ على تنقُّل الأحوال بهذه اللغة، واعتراض الأحداث عليها، وكثرة تغوُّلها وتغيُّرها»، كما يقول أنَّ اللغة: «تلاحِق تابع منها بفارط»، ويرى ابن جني أنَّ ظهور لفظ ما إنَّما يكون قياساً على ألفاظٍ أخرى بائدة: «لا بد أن يكون قد وقع في أوَّل الأمر بعضها، ثُمَّ احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه، لحضور داعي إليه، فزيد فيها شيئاً فشيئاً، إلا أنَّه على قياس ما كان سبق منها في حروفه، وتأليفه، وإعرابه المُبِين عن معانيه». ويضع ابن جني عدداً من الأسباب لتطوُّر اللغة وتغيُّرها، فبالإضافة إلى الاحتكاك باللغات الأخرى كما سبق، فقد أشار أيضًا إلى أنَّ اللُّغة تجنح في تطوُّرها إلى الخفيف والابتعاد عن الثقيل من الكلام، ويتكرَّر هذا الحديث في مؤلفاته تحت مُسمَّى الاستثقال والاستخفاف، فيقول: «ومنه إسكانهم نحو: رُسل، وعجز، وعضد، وظرف، وكرم، وعلم، وكتف، وكبد، وعصر. واستمرار ذلك في المضموم والمكسور دون المفتوح، أدُّ دليلٍ، بفصلهم بين الفتحة وأختيها، على ذوقهم في الحركات واستثقالهم بعضاً واسنخفافهم الآخر». وأشار ابن جني كذلك إلى إمكانيَّة ظهور ألفاظ جديدة نتيجة أخطاء لغوية سمحت ظروف معيَّنة لها بالاستمرار حتى صارت من أصل اللُّغة، وهو من الأسباب المهمَّة لتطوُّر اللغة وفقما يقرِّره اللغويون، يقول ابن جني في "باب أغلاط العرب": «إنَّما دخل هذا النحو في كلامهم، لأنَّهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يعتصمون بها، وإنَّما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد».

المصدر: wikipedia.org