"فلسفة التربية" -في أبسط صورها- ترمز إلى دليل الإبحار الذي يحدد مقاصد الإقلاع التربوي وأدواته في محيطات المستقبل. فكما أن للملاحين الذين يعبرون المحيطات الماء دليلاً يحدد مقاصدهم، وسفناً تحملهم، وخرائط وبوصلات تحدد مساراتهم، ومقاييس يقيسون بها المسافات وأعماق المحيطات، وتقلب الأجزاء والأنواء، كذلك لا بد أن يكون للتربية التي تعبر بالإنسان محيطات المستقل دليل يشتمل على "نظرية وجود" تبحث في مكونات الوجود وعلاقات هذه المكونات لتحدد التربية من خلال ذلك مقاصدها وغايتها، وأن يشتمل كذلك على "نظرية معرفة" تحدد التربية بواسطتها مناهجها وطرائقها، و"نظرية قيم" تقيس التربية بها ممارساتها وتقيم نتائج عملها في مختلف الأطوار الزمانية والبيئات المكانية، وأن تشتمل أيضاً على سبر عميق لـ"طبيعة الإنسان" الذي هو مدار العملية التربوية حتى تسهم الممارسات التربية في تحقيق الانسجام بين هذا "الإنسان" وبين الوجود الكبير من حوله.
غير أن الإبحار التربوي في عباب المستقبل -كالإبحار المائي في عباب المحيطات- لا يكفي فيه الدليل وعدة الإبحار، وإنما يحتاج أن يسبقه كشوفات دقيقة لمعالم المحيطات المستقبلية وشواطئها ومراسيها، تماماً كما سبق الملاحة البحرية الدولية اكتشافات جغرافية قان بها رواد جسورون عبروا المحيطات وقدموا الكثير من التضحيات حتى وصلوا أرجاء الأرض كلها ودونوا مشاهداتهم وخبراتهم وأعدوا الخرائط والصور المفصلة الدقيقة عن مواقع القارات وأشكالها وموانئها، والمسافات الموصلة إليها، وأحوال المحيطات التي تفصل بينها.
وفي العصور الحديثة أولت المؤسسات التربوية عناية خاصة لتحديد المقاصد والغايات والمناهج المعرفية والمعايير القيمية وفهم الطبيعة الإنسانية كعدة للإقلاع عبر المستقبل وأطلقت على هذه كلها اسم "فلسفة التربية" وأعطتها -وما زالت تعطيها- الكثير من طاقاتها العقلية ومقدراتها المادية.
وحين نشأ هذا الاهتمام بـ"فلسفة التربية" كان يقود الفكر الثقافي في الغرب فريقان: فريق الفلاسفة الوضعيين Positivists الذين حاولوا تحديد "غايات الحياة ومقاصدها"- أي حاولوا القيام بدور المكتشفين لمحيطات المستقبل ومراسيه ثم القيام بدور الملاحقين بعد أن انفصلوا عن توجيهات الوحي والرسالات السماوية لظروف تاريخية معروفة لا مجال لاستعراضها وفريق العلماء الطبيعيين الذين اختصوا بتطوير "وسائل الحياة وأدواتها" وركزوا على ميادين البحث والكشوف العلمية.
وهذا البحث الذي يطرح تفاصيل "فلسفة التربية الإسلامية" إنما يستهدف الإسهام في الجهود الجارية في العالم لإعادة التكامل بين فرقات المعرفة: فريق الرسل وفريق العلماء كوسيلة لتكامل الإيمان والعلم في العمل على بقاء النوع البشري ورقيه. فهذا البحث "ينظر" في "بصائر" القرآن الكريم وتطبيقات السنة المحكمة ثم يبحر في تجارب الواقع البشري و"يقرأ" آيات الله في الآفاق والأنفس ليستخرج من ذلك.