اذا لم تجد ما تبحث عنه يمكنك استخدام كلمات أكثر دقة.
علم الكلام يعرف أيضا باسم علم التوحيد، وعلم أصول الدين، وعلم الفقه الأكبر، وعلم الإيمان، وعلم الأسماء والصفات، وعلم أصول السنة، أحد أبرز العلوم الإسلامية الذي يهتم بمبحث العقائد الإسلامية وإثبات صحتها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية. إذ يُعَدُّ – إلى جانب علم أصول الفقه – انعكاساً لمنهج التفكير الإسلامي، وتجلياً من تجلياته العقلية. فهو – في بعض مسمياته– علم النظر والاستدلال، وقد سمي بذلك لقيامه على القول بوجوب النظر العقلي عند كثير من المتكلمين، واشتغاله بآليات الاستدلال العقلية على المسائل الإيمانية. وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة ويلحق بها، وهو أشرف العلوم وأكرمها على الله تعالى، لأن شرف العلم يتبع شرف المعلوم لكن بشرط أن لا يخرج عن مدلول الكتاب، والسنة الصحيحة، وإجماع العدول، وفهم العقول السليمة في حدود القواعد الشرعية، وقواعد اللغة العربية الأصيلة.
ويقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلا إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نتعرف على الأدلة التي يوردها العلماء في هذا المجال. وذلك أن هذا العلم هو الذي يعرفنا الأدلة والبراهين والحجج العلمية التي باستخدامها نستطيع أن نثبت أصول الدين الإسلامي، ونؤمن بها عن يقين. كما أنه هو الذي يعرفنا كيفية الاستدلال بها وكيفية إقامة البراهين الموصلة إلى نتائج يقينية. وهكذا إذا أردنا أن نعرف وجوب نبوة النبي وصحتها، فإننا نعمد إلى أدلة هذا العلم التي يستدل بها في هذا المجال، وندرسها، ثم نقيم برهانا على ذلك. وأيضا إذا أردنا أن ننفي شبهة التجسيم عن الذات الإلهية، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نستطيع معرفة ما يقال من نقد لإبطالها. ولابد في الأدلة التي يستدل بها على إثبات أي أصل من أصول الدين، وأي مسألة من مسائل هذا العلم وقضاياه من أن تكون مفيدة لليقين. فمثلا لو أقمنا الدليل على ثبوت المعاد (أي البعث بعد الموت) لابد في هذا الدليل من أن يؤدي إلى إثبات المعاد بشكل يدعونا إلى الاعتقاد الجازم والإيمان القاطع بثبوته، أي اليقين بمعاد الناس وببعثهم من القبور وحشرهم يوم القيامة، وعرضهم للحساب، ومن بعد مجازاتهم بالثواب أو العقاب.
هو علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية، فقد عرف علماء الكلام ذلك العلم بأنه: علم يُقْتَدر به على إثبات العقائد الدينية مُكْتَسَبة من أدلتها اليقينية: القرآن والسنة الصحيحة لإقامة الحجج والبراهين العقلية والنقلية ورد الشبهات عن الإسلام.
وهناك عدة تعريفات لعلم الكلام، تختلف في ظاهرها في المفهوم المأخوذ منها، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى حقيقة واحدة، منها تعريف الفارابي بأنه "ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل". ويعرفه عضد الدين الإيجي في المواقف بقوله: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد ، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام". وإذا كان كل من الفارابي والإيجي قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز بين الفرق الإسلامية، فإننا نجد ابن خلدون في مقدّمته يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق فيقول في تعريفه لعلم الكلام: "هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد". وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه الغزالي في المنقذ من الضلال. وهناك تعريفات أخرى للكلام تحدده بموضوعه لتفصل بينه وبين العلوم الأخرى الناظرة في الإلهيات، منها تعريف الشريف الجرجاني له بقوله: "علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام". وقد أُدخل قيد قانون الإسلام لإخراج الفلسفة الإلهية من التعريف، فإنها تبحث عن ذلك معتمدة على القواعد العقلية الفلسفية. ويقول صديق حسن القنوجي في أبجد العلوم: "وقال الأرنيقي: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى وصفاته ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام وفي الحكمة على مقتضى العقول ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة وأحكام الأقيسة وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولا من الكتاب والسنة ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى".
وقال سعد الدين التفتازاني: "الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية". وقال الكمال بن الهمام في المسايرة: "والكلام معرفة النفس ما عليها من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام عن الأدلة علما وظنا في البعض منها". وهذا التعريف يفترق عن ما سبقه بنصه على أن بعض العقائد تؤخذ عن دليل ظني، ومن هنا فإن علماء الكلام يدرجون في تصانيفهم بعض المسائل التي تنبني أصلا على أدلة ظنية. قال الكمال بن أبي شريف في شرحه عليه: "وهذا التعريف مأخوذ من قول أبي حنيفة رضي الله عنه: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها". ومن ذلك يُفهم أن هذا العلم يفيد تثبيت العقيدة في النفس، وفي إفحام المخالف وإلزامه.
والملاحظ في هذه التعاريف، أن بعضها ناظر إلى المواضيع التي يدور البحث عنها في هذا العلم، وبعضاً آخر ناظر إلى الغاية المرجوّة منه. والجامع بين هذه التعاريف ما ذكر في ضمنه المسائل والغاية والأسلوب، فعُرّف بأنه: "العلم الذي يبحث عن أصول العقائد المذهبية، مستعيناً بالأدلة العقلية والنقلية، خلوصاً من العقائد الكافرة الضالة، والتزاماً بالعقيدة الحقة". ومن هذه التعريفات يمكننا أن نستخلص أن علم الكلام يقوم على إثبات العقيدة الدينية عن طريق الأدلة العقلية، فهو بذلك يقوم بتوضيح أصول العقيدة وشرحها وتدعيمها بالأدلة العقلية وبذلك يستكمل المؤمن نوران: نور العقل ونور القلب، وتزول الشكوك والوساوس التي قد تعتريه. ولعلم الكلام مهمة دفاعية تتمثل في رد دعاوى الخصوم المنكرين للعقيدة الإسلامية، وهؤلاء هم أصحاب الديانات الشرقية القديمة أو أصحاب الديانات السماوية المخالفة للإسلام وهي اليهودية والمسيحية، ويقوم علم الكلام بتقويض أدلة أصحاب تلك الديانات وبيان بطلانها، وذلك عن طريق إيراد الأدلة العقلية التي تبين تفاهتها وسقوطها، وأيضا الرد على الشبه التي يوردها أصحاب تلك الديانات على العقيدة الإسلامية. فعلم الكلام له دور إيجابي في إثبات صحة العقيدة بالعقل، ودور دفاعي يقوم بالدفاع عن العقيدة ضد الخصوم المنكرين لها، وقد تلازم الدوران عبر مراحل نشأة علم الكلام وتطوره، وليس صحيحا ما يذكر بأن مهمة علم الكلام كانت دفاعية فقط ولم يهتم بتوضيح العقيدة وشرحها.
وقد عرف علم الكلام الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمين، وهذه التعريفات وإن تباينت في ألفاظها إلا أنها كلها تكاد تتفق على معنى واحد. فهي مجمعة على أن علم الكلام من شأنه أن يساعد المسلم على نصرة الآراء الدينية الواردة في القرآن والسنة بالعقل. وهذه التعريفات تبين أن علم الكلام علم يستطيع المرء من خلاله أن يثبت العقائد الإيمانية إثباتاً صحيحاً وأن يرد كل الشبهات والانحرافات عن هذه العقائد. كذلك تتفق هذه التعريفات على أن موضوع علم الكلام هو الذات الإلهية: صفاتها وأفعالها وعلافتها بالكون والإنسان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هناك شرطين لابد من توافرهما لكي يكون البحث مندرجاً تحت علم الكلام:
فبدون هذين الشرطين لن يكون البحث بحثاً كلامياً أو مندرجاً تحت علم الكلام. فعالم الكلام لابد أن يستمد موضوع بحثه ودارسته من النص الديني، من النقل لا من العقل، من الشريعة الدينية لا من الأحكام العقلية. ولابد أن تكون غايته الدفاع عن هذه الشريعة سواء بشرح نصوصها الدينية أو بتفسيرها والتعليق عليها أو بإيراد الحجج العقلية المؤيدة لها.
أطلقت عدة تسميات على ذلك العلم الذي يتناول أصول الدين، فلقد سماه أبو حنيفة بالفقه الأكبر من حيث إنه يتعلق بالأحكام الاعتقادية الأصلية في مقابل علم الفقه الذي يتعلق بالأحكام الفرعية العملية. وفي شرح العقائد النسفية يسميه التفتازاني علم التوحيد والصفات فيذكر أن العلم المتعلق بالأحكام الفرعية أي العملية يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات.
وهذه التسمية تقوم على شرف ذلك العلم وعلو منزلته، إذ أنه يتناول الأصول الاعتقادية التي تبنى عليها الفروع وهو بذلك رأس العلوم الإسلامية إذ إليه تنتهي هذه العلوم، وفيه يبين مباديها وموضوعاتها. وقد يسمى بعلم أصول الدين، من حيث إن موضوعه يتناول أصول الدين، وهي الإيمان بالله تعالى ووحدانيته، وصفاته وأفعاله، والإيمان بالوحي وإرسال الله تعالى للرسل والإيمان بالبعث والثواب والعقاب في الآخرة، وتلك أصول الدين. ولقد أطلق المتكلمون الأوائل على مؤلفاتهم الكلامية هذه الأسماء، فمؤلف أبو حنيفة سماه الفقه الأكبر، ومؤلف الماتريدي عنون باسم التوحيد، ومؤلف أبو اليسر البزدوي عنون باسم أصول الدين، وكذلك عبد القاهر البغدادي له كتاب بعنوان أصول الدين.
والمشهور هو تسمية ذلك العلم بعلم الكلام، وذلك لعدة أسباب، منها أن مسألة الكلام الإلهي كانت أشهر مباحثه فسمى الكل باسم أشهر أجزائه، وأيضا سمي بعلم الكلام لأنه يورث قدرة على الكلام، وأيضا لأن نسبة هذا العلم للعلوم الإسلامية كنسبة المنطق إلى الفلسفة فسمي بالكلام، وذلك حتى تقع المخالفة اللفظية بين الاسمين وأيضا لأنه أول ما يجب من العلوم، والكلام سبب لتعليم العلوم وتعلمها فكان سببا لها في الجملة، وأيضا لأن مباحث هذا العلم مباحث نظرية فهو يبحث في الأمور الاعتقادية التي لا يندرج تحتها الفعل، أما الفقه فهو يبحث في أحكام عملية يندرج تحتها فعل، وعلى هذا فالكلام مقابل الفعل، والمتكلمون قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل، فكلامهم نظري لفظي لا يتعلق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية. وقد يسمى بعلم الكلام بما رواه جلال الدين السيوطي في ذم أهل البدع وهم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعمله وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون.
ويقول سعد الدين التفتازاني في بيان أسباب تسمية علم الكلام بهذا الاسم: "لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا؛ ولأن مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نزاعًا وجدالًا، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيرًا من أهل الحق؛ لعدم قولهم بخلق القرآن". وذهب الشهرستاني في الملل والنحل إلى أن سبب تسميته بهذا الاسم: "إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان". ويعلل عضد الدين الإيجي تسمية علم الكلام بأسباب مماثلة بقوله: "إنما سمي كلاما إما لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا، أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، أو لأنه يورث القدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم". والأرجح أن علة تسميته بالكلام وعلم الكلام، راجعة لاشتهاره بالخوض في موضوع كلام الله تحديدا.
ويبدو من هذه التسميات أنها اشتقت من أهم مباحث هذا العلم التي يبحثها فسمي تارة بأصول الدين من حيث تناوله لأصول الدين بالبحث، وتارة سمي بالتوحيد من حيث إن الأصل الأول الذي يقوم عليه الدين هو وجود الله تعالى ووحدانيته، وتارة يسمى علم الكلام وذلك من أشهر مسميات هذا العلم وهو كلام الله تعالى، وإما أنها ترجع إلى فائدة ذلك العلم، إذ إنها تعطي لصاحبها القدرة على الكلام في أصل الدين، وإما لمنهجه العقلي واستخدامه للعقل بجانب النص، وإما لطبيعته النظرية من حيث اتصاله بالنظر المجرد الذي لا يتصل بالعمل. وبالرغم من تعدد إطلاق الأسماء على ذلك العلم، إلا أن المشهور في تسميته هو علم الكلام.
موضوعات علم الكلام تتعلق بالأصول الدينية كالبحث في ذات الله وصفاته وأفعاله. وفي أحكام الشريعة من بعثة الرسل ونصب الأئمة والتكليف والثواب والعقاب. يتناولها بحسب ما وردت في الشريعة أمراً مقرراً لا مدخل فيه للشك، محاولاً أن يؤيدها بالأدلة العقلية حتى يكون الإيمان بها أشد وثوقاً وأكثر توكيداً لاجتماع النقل والعقل معاً، فضلاً عن أن الدليل العقلي هو السبيل إلى إثبات هذه الأصول على المخالفين من أصحاب الديانات المخالفة. وموضوع علم الكلام هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى لإثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرج منها البراهين. وهو على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة، لأن الفلاسفة لهم كلام في ذلك يعرف عندهم بالإلهيات؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتماداً على مجرد النظر بالعقل، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الرسول؛ فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلاً للدين، وأما الفلاسفة فجعلوه أصلاً من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه. قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين ما نصه: "وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير". قال وقال الحافظ ابن عساكر: "....يا خليل الله ما تقول في علم الكلام، فقال: يدفع به الشبه والأباطيل".
وموضوع علم الكلام هو كما يحدده الإيجي في كتابه المواقف: "المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا". يقول الشريف الجرجاني في شرحه: "وذلك لأن مسائل هذا العلم أما عقائد دينية كإثبات القِدَم والوحدة للصانع، وإثبات الحدوث وصحة الإعادة للأجسام، واما قضايا تتوقف عليها تلك العقائد كتركيب الأجسام من الجواهر الفردة، وجواز الخلاء وكانتفاء الحال، وعدم تمايز المعدومات المحتاج إليهما في اعتقاد كون صفاته تعالى متعددة وموجودة في ذاته...". والدين يقوم على جملة من الأحكام، بعضها يتعلق بالأمور الاعتقادية، وبعضها يتعلق بالأمور العملية من عبادات ومعاملات، ولقد وضح ابن خلدون الأمور الاعتقادية بأنها الأمور التي كلفنا بتصديقها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بألسنتنا، وهي التي تقررت بقول النبي حين سئل عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام.
وهذه الأمور الاعتقادية لا تتعلق بالعمل، فيذكر جلال الدين الدواني في شرحه على العقائد العضدية طبيعة تلك الأمور الاعتقادية مفرقا بينها وبين طبيعة الأمور العملية فيقول: "ما يتعلق الفرض بنفس اعتقاده من غير تعلق بكيفية العمل لكونه تعالى حياً قادراً إلى غير ذلك من مباحث الذات أو الصفات وتسمى تلك الأحكام المتعلقة بكيفية العمل كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم وتسمى شرائع وفروعاً وأحكاماً ظاهرة". فالدين بذلك يقوم على أصول وفروع، وعلم الكلام يتناول أصول الدين في مقابل الفقه الذي يتناول الأحكام العملية، ومبحث علم الكلام هو ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وبعث الرسل وأحكام الآخرة. ولقد ذكر القاضي الأرموي موضوعات أخرى تتعلق بالبحث في صفات الله تعالى وأفعاله كحدوث العالم، فيقول: موضوع علم الكلام هو ذات الله تعالى إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية التي هي صفاته الثبوتية والسلبية وعن أفعاله إما في الدنيا كحدوث العالم، وإما في الآخرة كالحشر وعن أحكامه فيهما كبعث الرسل ونصب الإمام في الدنيا من حيث إنهما واجبان عليه تعالى أم لا، والثواب والعقاب في الآخرة من حيث إنهما يجبان عليه أم لا.
ويقول شمس الدين السمرقندي في الصحائف الإلهية: "لما كان علم الكلام نفسه يبحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأسمائه، وعن أحوال الممكنات والأنبياء والأولياء والأئمة والمطيعين والعاصين، وغيرهم في الدنيا والأخرى، ويمتاز عن العلم الإلهي المشارك له في هذه الأبحاث بكونه على طريقة هذه الشريعة، فحده: إنه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام".
وعلم الكلام يبحث في العالم من حيث دلالته على الله، فيذكر الخوارزمي في بيان أصول الدين التي يتكلم فيها المتكلمون، وأولها القول في حدوث الأجسام والرد على الدهرية الذين يقولون بقدم الدهر، والدلالة على أن للعالم محدثاً (أي خالقاً) وهو الله تعالى والرد على المعطلة. ويلاحظ أن مبحث الإمامة التي ذكرها التهانوي وغيره على أنه من المباحث الكلامية، لا يلق اتفاقاً من جميع المتكلمين في ضمه إلى مباحث علم الكلام، فعلى سبيل المثال الكمال بن الهمام في "المسايرة" يرى أن مبحث الإمامة ليس من موضوعات علم الكلام بل هي من المتممات. ويرى سيف الدين الآمدي أيضا أن مبحث الإمامة ليس من أصول الدين بل من فروعه.
علم التوحيد أو علم الكلام هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به ومالا يجوز عليه وما يجب له من أن يُعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال إمام الصوفية الجنيد البغدادي: "التوحيد إفراد القديم من المُحدث". وقال الشيخ أبو علي الروذباري تلميذ الجنيد: "التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري: "أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل".
وشرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقاً بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله. والعلم بالله تعالى وصفاته أجل العلوم وأعلاها، ويسمى علم الأصول، وعلم التوحيد، وعلم العقيدة، وقد خص النبي نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: "أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له" فكان هذا العلم أهم العلوم تحصيلاً وأحقها تبجيلاً وتعظيماً، قال تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك". قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن الرسول سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله". وصح عن جندب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزاوِرَة (جمع حَزَوّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً" رواه ابن ماجه. فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط: "الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها". وقال أيضاً: "أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر".
وفي فتاوى قاضيخان على مذهب أبي حنيفة عنه ما يدل على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعلميه للناس، فقد ورد فيه ما نصه: "تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّموا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق، وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم إذا علم من قاض أو من آخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوام حقاً ويعسر إزالته!".
وقال ابن عساكر: "أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل، وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات، وذاك يصلي وقلبه حاضر، ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها، وهذا يقاوم كل عدو للإسلام، ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر، فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين، وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين، وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف، إذا أشكل خراج بقعة، رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع، والقراء من الخواص، والفقهاء حفظة الشرع، وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل ويجوز في حق الصانع، وهم الأقلون اليوم...". فظهر من ذلك أن صرف الهمة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي.
وتتلخص فائدة علم الكلام في التالي:
السمات والأسس العامة للمنهج عند المتكلمين تتمثل في النقاط التالية:
يقوم منهج المتكلمين على دعامتين أساسيتين هما العقل والنقل، فلقد ذهبوا إلى عدم تعارضهما، وأدخلوا عنصر العقل في المعرفة الدينية وبذلك لا تقتصر على النقل وحده، ودافعوا عن النظر كأحد مصادر المعرفة وأهمها، ضد المنكرين له ومن السمنية المقتصرين على الحس، والسوفسطائية المشككين في المعرفة العقلية، والحشوية المنكرين لاستخدام العقل في الدين والواقفين عن ظواهر النصوص. ولم يكتف المتكلمون بذلك بل قرروا وجوب النظر، وإن اختلفوا في مصدر وجوبه هل الشرع أم العقل، يقول الجويني: "النظر الموصل إلى المعارف واجب ومدرك وجوبه بالشرع، وجملة أحكام التكليف متلقاة من الأدلة السمعية والقضايا الشرعية"، والمعتزلة تقول: "إن العقل يتوصل إلى درك الواجبات ومن جملتها النظر فيعلم وجوبه عندهم عقلاً". ويستدل الجويني على وجوب النظر من جهة الشرع بإجماع الأمة على وجوب معرفة الله تعالى واستبان بالعقل أنه لا يتأتى الوصول إلى اكتساب المعارف إلا بالنظر، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.
ولما كان النظر واجباً وأنه لا تعارض بينه وبين النقل فإننا نجد المتكلمين قد أقاموا أدلتهم على أساس العقل والنقل، وأصبح إقامة الدليل ركناً أساسياً من منهجهم. ويرى المتكلمون أن الحق لا ينال إلا بالدليل وإقامة الحجة، فعن طريقهم يعرف الحق ويتوصل إليه. والدليل هو ما يراد به إثبات أمر أو نقضه وقد يستعمل بمعنى الحجة.
ولقد قسم عضد الدين الإيجي الدليل إلى ثلاثة أقسام:
وأضاف الإيجي أن هناك من المطالب ما لا يمكن إثباته إلا بالنقل، لأنه غائب عن العقل والحس معاً، ويستحيل العلم بوجوده إلا بقول صادق، ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب، فهي تعلم بأخبار الأنبياء، ومنه ما لا يعرف بالدليل العقلي كحدوث العالم ووجود الصانع قبل ورود السمع، ومنه ما يعرف بكل واحدة من الطريقتين كخلق الأفعال ورؤية الله تعالى.
لقد احتل العقل منزلة هامة في القرآن، فهو لم يكن قط ضد التفكير والتأمل والبحث والنظر والاستدلال، الذي هو السبيل إلى معرفة الله تعالى، فهو من الواجبات على المسلم، ومن هنا دعا القرآن دعوة صريحة إلى النظر في العالم المخلوق، أما تعدي هذا المجال إلى البحث في ذات الله وما يتعلق بها فهذا ممنوع. والأدلة على ذلك كثيرة، ويمكن أن نلمسها في مواضع كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ويقول أيضاً: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ . ولقد عظم القرآن العلم والتعلم فكانت أول آية نزلت تشير إلى ذلك في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ومن القراءة اشتق القرآن، ولهذا فإن القرآن يعظم العلم والحكمة. يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ . والإنسان لن يحصّل العلم ولن يتعلمه إلا بالتفكير والنظر والتدبر ومن أمثله هذه الآيات التي تدعو إلى ذلك قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فلقد جعل الله تعالى الذين لا يستخدمون عقولهم في مرتبة البهائم أو أكثر منهم شراً كما ذم القرآن التقليد الأعمى كطريق للعلم، وحث الإنسان على العمل بالدليل، ونهاه عن التقليد وأوجب عليه الاجتهاد. كما نبه القرآن إلى استخدام القياس وهو عملية عقلية في نحو قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ فجعل الله تعالى التاركين لقياس النشأة الأخرى على النشأة الأولى في الاستدلال على البعث والجزاء والعقاب خارجين عن الحق. كما حث القرآن على استخدام العقل والنظر في العالم، ورفع من شأن العلم والعلماء، وأمثلة ذلك كثيرة منها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويرى الإمام حافظ الدين النسفي في تفسيره لقوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} أن الله يشير هنا إلى أولئك الذين ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها. ثم يذكر قول الرسول في الحديث: (ويل لمن قرأ هذه الآية فمج فيها) أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. وبالقرآن دعوة صريحة للإنسان إلى استخدام عقله لاكتشاف قوانين الخلق كما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وإلى جانب هذا كله فإن القرآن كثيراً ما ينص على أن آياته: {لقوم يعقلون} و{لقوم يتفكرون} و{لقوم يفقهون} و{لقوم يتذكرون} و{لأولي الألباب} و{لأولي النهى} و{للعالمين}. كما أن القرآن قدم أدلة دامغة - بوجوه مختلفة في أنواعها وطرقها - على بعض القضايا الإيمانية كوجود الله، ووحدانيته، وخلقه للعالم، والبعث بعد الموت، داعياً الناس إلى إعمال الفكر فيما يروه ويستشعروه بأي نوع من أنواع الحس للوصول إلى الحقيقة.
سبب نشأة علم الكلام هو الرد على المبتدعة، الذين أكثروا من الجدال مع علماء المسلمين، وأوردوا شُبهاً على ما قرره علماء السلف الأوائل، فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا يلبسوا على الضعفاء أمر دينهم، وحتى لا يُدْخِلُوا في الدين ما ليس منه، ولو ترك العلماء هؤلاء الزنادقة وما يصنعون؛ لاستولوا على كثير من عقول الضعفاء وعوام المسلمين، والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم، فأضلوهم وغَيَّروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة. وقبل تصدي هؤلاء العلماء لهم لم يكن أحد يقاومهم، وسكوتهم هذا أدى إلى نشر كلام هؤلاء الزنادقة حتى اعتقده بعض الجاهلين، فكان لِزَاماً على علماء المسلمين أن يقوموا بالرد على هؤلاء من خلال تعلمهم هذا العلم ونبوغهم فيه؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم، وإلزامهم الحق، فردوا عليهم وأبطلوا شُبُههم، وكانت طريقتهم في الرد هي إثبات العقائد الإسلامية، والاستدلال عليها بما هو من جنس حُجَج القرآن.
يقول الدكتور محمد الزحيلي في كتابه "الإمام الجويني إمام الحرمين" ما نصه: "كان الدافع لدراسة أصول الدين أولاً، وتأكيده بدراسة الفلسفات المتنوعة، هو الحرص على الإسلام والدعوة إليه، ورد شبهات الأعداء عنه، وتفنيد حجج الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة الإسلامية، والملحدين الذين انضووا تحت لواء المسلمين، وتستروا بالباطنية وغيرها من الفرق الضالة، للدس على الإسلام، والتشكيك فيه، وإثارة الشبه بين المسلمين... فصار دراسة أصول الدين وعلم الكلام وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين، فانكب العلماء على دراسته وتدريسه والتصنيف فيه، وهو ما سلكه إمام الحرمين الجويني".
فقد نشأ علم الكلام نشأة إسلامية تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، ولما كان علم الكلام هو العلم الذي يبحث في الأصول أو الأحكام الاعتقادية، مقرراً إياها بالحجج والبراهين النقلية وتوكيدها بالعقل بعد الإيمان بها بالقلب والوجدان، ومدافعاً عنها ضد شبهات الخصوم، الأمر الذي حدا بالمتكلمين إلى دراسة هذه الشبهات والاعتراضات، وذلك حتى يتيسر الرد عليها ودفعها. ولعل هذا هو الذي أدى بالمتكلمين إلى دراسة عقائد الأديان السماوية الأخري، وكذلك أصحاب الملل والنحل المختلفة وما أثاروه من شبهات واعتراضات ضد الإسلام، وذلك حتى يتيسر عليهم رد اعتراضاتهم وشبهاتهم. ولقد أنتج المتكلمون دراسات في مقارنة الأديان تشهد بسعة اطلاعهم ومعارفهم، كما تشهد أيضاً بمنهجهم العلمي في الدفاع عن الإسلام ضد المخالفين. ومن هنا اختلط بعلم الكلام بعض المباحث، استعانوا بها في عملية الرد على شبهات الخصوم. وكان ذلك أمراً ضرورياً لأن أفضل وسيلة لدفع الخصوم هو أن يكون هذا الدفع بوسائل الخصوم التي اعتادوها. وقد صرح أحد أئمة الأصول في المغرب الإسلامي وهو الإمام يوسف بن محمد المكلاتي (ت 626 هـ) في كتابه "لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول" بأنه ليس أقوى من سلاح الخصم للقضاء على أسلوب الخصوم، طالما كان السلاح مشروعاً. وعلى هذا لا يقدح في أصالة علم الكلام الإسلامي احتواؤه على بعض أساليب الخصوم، أو اشتماله على بعض مباحث الفلسفة، ذلك لأن هذا كله كان لغاية دينية نبيلة، وهي الدفاع عن الدين وتوكيد أصوله، كما لا يقدح أيضاً في كونه علماً دينياً من جملة العلوم الشرعية الدينية.
فلم يكن تَعَرُّف الأمة على هذه الأفكار ودراستها من باب الترف الفكري، ولا من باب الانصراف عن الكتاب والسنة، بل كان تعلم هذه العلوم ضرورة لمواجهة الأخطار التي تحدق بالعقيدة الإسلامية، فكان الخصوم يثيرون الشبهات العقلية حول ذات الله وأسمائه وصفاته ورُسُله وملائكته وكتبه وقضايا الموت والبعث والحساب، إلى غير ذلك. ولم يكن المنهج القائم على نصوص الكتاب والسنة المجردة عن دعم الدليل العقلي لينجح في مواجهة هؤلاء القوم، فالحجج العقلية البحتة لابد أن تواجهها بنفس طريقتها وإلا ستصير فتن كبرى. فلجأ المسلمون إلى تعلم هذه العلوم وتدريسها والكتابة فيها، ونشأت مدارس كلامية مختلفة كالمدرسة الأشعرية والماتريدية، فلم يكن القوم مبتدعة في هذا. ويعتبر بعض العلماء أن جذور علم الكلام ترجع إلى الصحابة والتابعين، ويورد البعض على سبيل المثال رد علي بن أبي طالب على الخوارج، ورد إياس بن معاوية المزني على القدرية.
ويلخص تقي الدين المقريزي مبدأ علم الكلام في كتابه المواعظ والاعتبار فيقول ما ملخصه:
فهناك محن وأسباب دعت الأمة إلى الخوض في هذا الفن حفاظاً على الشريعة وقوامها وبقائها، ولم يكن الاشتغال بهذه العلوم نوع من الانصراف عن الله ولا عن رسوله. وكان من أوائل من اشتغل بهذا الفن تعلماً وتعليماً ورداً على المبتدعة في زمانه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان المتوفى 150 هـ، كما يعد من أوائل المشتغلين بعلم الكلام، وتعد مؤلفاته المنسوبة إليه مثل "الفقه الأكبر" و"العالم والمتعلم" و"الوصية" من بواكير ما سُجّل في هذا الباب. ويسجل لنا التاريخ مناظرات الإمام أبي حنيفة للملاحدة والدهرية، ويذكر المتقي المكي في "مناقب أبي حنيفة" ما صورته: "قال أبو حنيفة: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة بالأمتعة، وقد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية وليس فيها ملاح يجريها ويقودها ويسوقها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ فقالوا: لا. هذا لا يقبله العقل، ولا يجيزه الوهم. فقال لهم أبو حنيفة: فيا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل وجود سفينة تجري مستوية من غير متعهد، فكيف يجوز قيام الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أمورها، وسعة أطرافها، وتباين أكتافها، من غير صانع وحافظ ومُحدث لها"؟!
ولقد نشأ علم الكلام نتيجة لعدة عوامل، منها: القرآن الذي يعد المصدر الأول للدين الإسلامي، ومنه استقى المسلمون معارفهم، وعليه قامت علومهم الأخلاقية والتشريعية. وبالنسبة لعلم الكلام فالقضية الأساسية التي يدور عليها هي قضية التوحيد، وعند النظر والتأمل في آيات القرآن، فإننا نجد أن القرآن قد اهتم بذلك كثيراً، ولقد أشار إلى ذلك فخر الدين الرازي عند تفسيره للآية الواحدة والعشرين من سورة البقرة. ويقول صديق حسن القنوجي في أبجد العلوم: "قال العلماء: اشتمل القرآن على جميع أنواع البراهين والأدلة إلا أن الوارد في القرآن أوضحها وأقواها لينتفع بها الخاصة والعامة والعدول إلى الدقيق هو للعاجز عن القوي الجلي والله أعلم بالصواب". ويذكر بعض الكتب التي صنفها العلماء في علم معرفة جدل القرآن كنجم الدين الطوفي. ويوضح كتاب حجج القرآن لأبي الفضائل الرازي، أن قبول القرآن لاحتمالات كثيرة كان سنداً للفرق والمذاهب الكلامية المختلفة.
ويذكر ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري قول أبي القاسم القشيري فيما يرويه عنه:
وقد ذكر الإمام الغزالي في الجزء الثاني من كتابه جواهر القرآن: الآيات التي وردت في ذات الله عز وجل وصفاته وأفعاله خاصة، ويشمل سبعمائة وثلاثاً وستين آية. ويقول الإمام الزركشي: "وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، ولكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين". ويقرر الدكتور محمد يوسف موسى أن القرآن اشتمل على أصول الفلسفة الإلهية وأنه يقدم للعقائد أدلة تستند إلى الملاحظة والتفكير. ويذكر الشيخ مصطفى عبد الرازق أن القرآن تعرض للجدل برفق، ودعا إلى الاقتصار على ما تدعو إليه الحاجة. ويقرر الدكتور سليمان دنيا أن الدور الأساسي في نشأة علم الكلام كان للقرآن الكريم. وخلاصة هذه الآراء أن المتكلمين وأكثر العلماء يرون أن القرآن يدعو إلى النظر في معرفة الله، ويساعد عليه. وقد يستثنى بعض العلماء الذين يتحدث عنهم الإيجي في كتابه المواقف بأنهم ينكرون وجوب النظر في معرفة الله: لتقرير النبي والصحابة وأهل سائر الأعصار: العوام، وهم الأكثرون، مع عدم الاستفسار عن الدلائل بل مع العلم بأنهم لا يعلومنها قطعاً. ويرد عليهم بقوله: "قلنا: كانوا يعلمون أنهم يعلمون الأدلة إجمالاً، كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام تدل على المسير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج... لا تدل على اللطيف الخبير. غايته أنهم قصروا عن التحرير وذلك لا يضر، أو ندعي أنه فرض كفاية - يعني المعرفة التفصيلية الاستدلالية - فإن الوجوب الذي ادعيناه أعم من ذلك".
يمكن القول بأن علم الكلام ليس فقط واحداً من العلوم الشرعية بل هو رئيس العلوم الشرعية قاطبة، ذلك لأن سائر العلوم الشرعية مستندة إليه استناد الفرع إلى الأصل، لأن فيه تثبت موضوعاتها، طالما كان موضوعه متعلقاً بالعقائد واثباتها. فيقول عضد الدين الإيجي في بيان مرتبة علم الكلام من العلوم الشرعية بناء على موضوعه وغايته: "إن موضوعه أعم الأمور وأعلاها وغايته أشرف الغايات وأجداها ودلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي الغاية في الوثاقة، وهذه هي جهات شرف العلم لا تعدوها فهو أشرف العلوم... وهو العلم الأعلى فليست له مبادئ تبين في علم آخر، بل مباديه إما بيّنة بنفسها أو مُبيّنة فيه، فهي مسائل له، ومبادئ لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور، فمنه تستمد العلوم، وهو لا يستمد من غيره، فهو رئيس العلوم على الإطلاق".
ويفضل محمد علي التهانوي هذا القول فيقول: "والكلام هو الأعلى إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها، فليست له مبادئ تبين في علم آخر شرعياً أو غيره بل مبادؤه إما مبيّنة بنفسها أو مبيّنة فيه، فهي أي فتلك المبادئ المبنية فيه مسائل له من هذه الحيثية ومبادئ لمسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور، فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها اثبات العقائد أصلاً، ولا دفع الشبه عنها فذلك من خلط مسائل علم آخر به تكثيراً للفائدة في الكتاب، فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلاً، فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة. فعلماء الإسلام قد دونوا لاثبات العقائد الدينية المتعلقة بالصانع وصفاته وأفعاله وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمعاد علماً يتوصل به إلى إعلاء كلمة الحق فيها، ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى علم آخر أصلاً، فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد، سواء أكان توقفها عليها مواد أدلتها، أو باعتبار صورها، وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في علمهم هذا، فجاء علماً مستغنياً في نفسه عما عداه، ليس له مبادئ تبين في علم آخر.
وهكذا تستند العلوم الشرعية إلى علم الكلام، فيستند إليه الفقه مثلاً استتناد الفرع على الأصل، ذلك لأن علم الفقه يرتبط بالعمل، والعمل فرع على النظر والاعتقاد. وعلم التصوف يستند إليه أيضاً، ذلك لأن التصوف يبحث في الأحكام الشرعية - نظرية كانت أو عملية - من ناحية آثارها في قلوب المتعبدين بها، من حيث يعني بجانب السلوك والأخلاق على أساس من التذوق الروحي والوجدان القلبي، ومن هنا فهو يستند إلى علمي الكلام والفقه، إذ لابد للصوفي على الحقيقة من علم كامل بالكتاب والسنة لكي يصحح اعتقاداته وعباداته ومعاملاته على اختلافها. ولهذا يقرر الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني أن انفصال هذه العلوم (يعني: علم الكلام، والفقه، والتصوف) والتميز بينها، إنما هو أمر اعتباري فقط، ذلك لأن هذه العلوم يمكن أن تندرج تحت اسم واحد، هو الشريعة، وجاء هذا الانفصال والتمييز نتيجة التخصص العلمي الدقيق، وهو أمر ظهر في الإسلام في وقت متأخر، أما قبل ذلك فكان اسم الفقه يطلق فقط على العمليات من الشرع، وإنما أيضاً على الاعتقاديات والأخلاق.
وهذه المكانة الهامة لعلم الكلام، يمكن أن نلمسها بشكل واضح في تصنيف العلوم عند العرب، والذي قام عندهم على بيان تصورهم للمعرفة البشرية، وتوضيح علاقات أجزائها بعضها ببعض، موضحين ترتيب العلوم من حيث الخصوص والعموم، ومبينين حدودها والعلاقات القائمة بينها. فالفارابي وهو أول مفكر إسلامي عنى بتصنيف العلوم في كتاب من أهم كتبه يحمل عنوان "إحصاء العلوم" والذي يحدد في مقدمته غرضه من هذا الإحصاء، وهو: إحصاء العلوم المشهورة في عصره، علماً علماً، وتعيين غرضها بالدقة اللازمة، وبيان مجمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له أجزاء ومجمل ما في كل واحد من أجزاء، وبهذا يستطيع الإنسان أن يقايس بين العلوم فيعلم أيها أفضل، وأيها أنفع، وأوثق وأقوى، وأيها أوهن وأضعف.
وخصص الفارابي الفصل الخامس في هذا الكتاب للعلم المدني وأجزائه، علم الفقه وعلم الكلام، وأعتبره الدكتور عثمان أمين من أمتع فصول الكتاب. فقام بوضع تعريف لعلم الكلام بأنه: صناعة وهو ملكة يقتدر بها الإنسان، على نصرة الآراء، والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل. ويرى أن له جزأين: الأول يدور حول الآراء، والثاني حول الأفعال أما ما يدور حول الآراء: فهو ما يتعلق بمسائل التوحيد، وذات الله وصفاته وأفعاله، أي ما يمس الأصول الاعتقادي