اذا لم تجد ما تبحث عنه يمكنك استخدام كلمات أكثر دقة.
الدَّوْلَةُ الفَاطِمِيَّةُ أو الخِلَاْفَةُ الفَاطِمِيَّةُ أو الدَّوْلَةُ العُبَيْدِيَّةُ هي إحدى دُولِ الخِلافةُ الإسلاميَّة، والوحيدةُ بين دُولِ الخِلافةِ التي اتخذت من المذهب الشيعي (ضمن فرعه الإسماعيلي) مذهبًا رسميًّا لها. قامت هذه الدولة بعد أن نشط الدُعاة الإسماعيليّون في إذكاء الجذوة الحُسينيَّة ودعوة الناس إلى القتال باسم الإمام المهديّ المُنتظر، الذين تنبؤوا جميعًا بظُهوره في القريب العاجل، وذلك خلال العهد العبَّاسي فأصابوا بذلك نجاحًا في الأقاليم البعيدة عن مركز الحُكم خُصوصًا، بسبب مُطاردة العبَّاسيين لهم واضطهادهم في المشرق العربي، فانتقلوا إلى المغرب حيثُ تمكنوا من استقطاب الجماهير وسط قبيلة كتامة البربريَّة خصوصًا، وأعلنوا قيام الخِلافةِ بعد حين. شملت الدولة الفاطميَّة مناطق وأقاليم واسعة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فامتدَّ نطاقها على طول الساحل المُتوسطيّ من بلاد المغرب إلى مصر، ثُمَّ توسَّع الخُلفاء الفاطميّون أكثر فضمّوا إلى مُمتلكاتهم جزيرة صقلية، والشَّام، والحجاز، فأضحت دولتهم أكبر دولةٍ استقلَّت عن الدولة العبَّاسيَّة، والمُنافس الرئيسيّ لها على زعامة الأراضي المُقدَّسة وزعامة المُسلمين.
اختلفت المصادر التاريخيَّة حول تحديد نسب الفاطميين، فمُعظم المصادر الشيعيَّة تؤكِّد صحَّة ما قال به مؤسس هذه السُلالة، الإمام عُبيد الله المهدي بالله، وهو أنَّ الفاطميين يرجعون بنسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، فهُم بهذا عَلَويّون، ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء ورابع الخُلفاء الرَّاشدين الإمام عليّ بن أبي طالب. بالمُقابل، أنكرت مصادر أُخرى هذا النسب وأرجعت أصل عُبيد الله المهدي إلى الفُرس أو اليهود. أسس الفاطميّون مدينة المهدية في ولاية إفريقية سنة 300هـ المُوافقة لِسنتيّ 912 - 913م، واتخذوها عاصمةً لدولتهم الناشئة، وفي سنة 336هـ المُوافقة لِسنة 948م، نقلوا مركز الحُكم إلى مدينة المنصوريَّة، ولمَّا تمَّ للفاطميين فتح مصر سنة 358هـ المُوافقة لِسنة 969م، أسسوا مدينة القاهرة شمال الفسطاط، وجعلوها عاصمتهم، فأصبحت مصر المركز الروحيّ والثقافيّ والسياسيّ للدولة، وبقيت كذلك حتّى انهيارها.
أظهر عددٌ من الخُلفاء الفاطميّون تعصُّبهم للمذهب الإسماعيلي، فعانى أتباع المذاهب والديانات الأُخرى خِلال عهدهم، وبالمُقابل اشتهر غيرهم بتسامحه الشديد مع سائر المذاهب الإسلاميَّة ومع غير المُسلمين من اليهود والنصارى الأقباط واللاتين والشوام من رومٍ وسُريانٍ وموارنة، واشتهر الفاطميّون أيضًا بقدرتهم على الاستفادة من كافَّة المُكونات البشريَّة لدولتهم المُنتمية لتكتُلاتٍ عُنصريَّة مُتنوِّعة، فاستعانوا بالبربر والتُرك والأحباش والأرمن في تسيير شؤون الدولة، إلى جانب المُكوِّن العُنصري الرئيسي، أي العرب.
شكَّل العصر الفاطمي امتدادًا للعصر الذهبي للإسلام، لكنَّ قُصور الخُلفاء لم تحفل بالعُلماء والكُتَّاب البارزين كما فعلت قُصور بغداد قبلها. وكان الجامع الأزهر ودار الحكمة مركزين كبيرين لنشر العلم وتعليم أُصول اللُغة والدين. وأبرز عُلماء هذا العصر كان الحسن ابن الهيثم كبير عُلماء الطبيعيَّات، والأخصَّائي بعلم البصريَّات، وقد جاوزت مؤلَّفاته المائة في الرِّياضيَّات وعلم الفلك والطب. أخذت الدولة الفاطميَّة تتراجع بسُرعةٍ كبيرة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، فاستبدَّ الوُزراء بالسُلطة وأصبح اختيار الخُلفاء بأيديهم. وكان هؤلاء الخُلفاء غالبًا من الأطفال أو الفتيان، واختلف عددٌ كبيرٌ من الوزراء مع قادة الجيش ووُلاة الأمصار ورجال القصر، فعاشوا في جوٍ من الفتن والدسائس، تاركين الناس يموتون من المجاعة والأوبئة المُتفشية. وخلال ذلك الوقت كانت الخِلافة العبَّاسيَّة قد أصبحت في حماية السلاجقة، الذين أخذوا على عاتقهم استرجاع الأراضي التي خسرها العبَّاسيّون لصالح الفاطميين، ففتحوا شمال الشَّام وسواحلها وسيطروا عليها لفترةٍ من الزمن قبل أن يستردَّها الفاطميّون، لكنَّها لم تلبث بأيديهم طويلًا، إذ كانت الحملة الصليبيَّة الأولى قد بلغت المشرق، وفتح المُلوك والأُمراء الإفرنج المُدن والقلاع الشاميَّة الواحدة تلو الأُخرى، وبلغ أحد هؤلاء المُلوك، وهو عمّوري الأوَّل أبواب القاهرة وهددها بالسُقوط. استمرَّت الدولة الفاطميَّة تُنازع حتّى سنة 1171م عندما استقلَّ صلاح الدين الأيوبي بمصر بعد وفاة آخر الخُلفاء الفاطميين، وهو أبو مُحمَّد عبدُ الله العاضد لدين الله، وأزال سُلطتهم الإسميَّة بعد أن كانت سُلطتهم الفعليَّة قد زالت مُنذُ عهد الوزير بدر الدين الجمالي.
أُثيرت حول أُصول الفاطميين عدَّة قضايا مُعقَّدة لم يصل الباحثون فيها إلى نتائج مُوحدة. فهذا اللقب، أي «الفاطميين» الذي عُرف به خُلفاء عُبيد الله المهدي، يدُلُّ، للوهلة الأولى، على أنَّهم من ذُريَّة عليّ بن أبي طالب رابع الخُلفاء الراشدين وأوَّل أئمة الشيعة، وفاطمة الزهراء بنت الرسول مُحمَّد، فهُم عَلَويّون. على أنَّ قضيَّة نسب الأُسرة الفاطميَّة، كان ولا يزال، موضوعًا لم يتفق المؤرخون، لا في الماضي ولا في الحاضر، على رأيٍ واحدٍ فيه، وذلك بفعل واقعين: الأوَّل هو التباين السياسي والمذهبي الذي ساد بين المُسلمين بعد وفاة الرسول، والثاني هو امتناع الفاطميين، مُدَّةً من الزمن، عن إعلان أنسابهم، بالإضافة إلى تعمُّدهم إخفاء أسماء أئمتهم من مُحمَّد بن إسماعيل حتّى عُبيد الله المهدي في المُدَّة التي اتخذوا فيها مبدأ ستر الإمام(1). وذهب كُلُّ مصدر مذهبًا خاصًّا في تحديد اسم ونسب عُبيد الله المهدي قبل أن يكون مهديًّا، وبعد أن صار كذلك. فبعضُ المصادر تنفي عنه النسب العَلَوي، وتعزوهُ إلى الفُرس أو المجوس، وتصفه أحيانًا بأنَّه ابن يهودي، وترجع في نسبه إلى ميمون القدَّاح فارسيّ الأصل. وهي وإن اختلفت في تحديد اسمه قبل استلامه رئاسة الدعوة الفاطميَّة، إلَّا أنَّها تتفق على أنَّ اسمه بعد أن أصبح رئيسًا للفاطميين هو عُبيد الله، وعلى هذا الأساس دعت هذه المصادر الدولة الفاطميَّة باسم «الدولة العُبيديَّة». وفي المُقابل تؤكد مصادر أُخرى، مُعظمها شيعيَّة، صحَّة نسب عُبيد الله المهدي، وتُرجعه إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق.
وفقًا لما ذكره المؤرِّخ ڤلاديمير إيڤانوڤ في بحثه عن تُراث الإسماعيليَّة المُتعلِّق بظهور الفاطميين، فإنَّ اسم الفاطميين هو الذي أُطلق على الإسماعيليَّة في بداية الأمر. ويذكُرُ الطبريُّ أنَّ بدو بني الأصبغ في بادية الشَّام، اتخذوا هذا الاسم تحت زعامة القُرمطي الإسماعيلي يحيى بن زكرويه. ويُمكنُ التماس أُصول الحركة الفاطميَّة التي أوصلت الفاطميين إلى السُلطة في إفريقية بزعامة عُبيد الله المهدي في أُصول العقائد الشيعيَّة الإسماعيليَّة التي تُمثِّلُ في الوقت نفسه أبعادًا سياسيَّة وفلسفيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة، والتي يتوقَّع مُعتنقوها ظُهور المهدي المنتظر من سُلالة الرسول مُحمَّد من خلال عليّ وفاطمة مُرورًا بفرع إسماعيل بن جعفر الصَّادق. والواضح أنَّ إسماعيل بن جعفر الصَّادق الذي توفي في حياة أبيه، كان أوسع نشاطًا من إخوته، وأعظمهم تأثيرًا في بناء العمل السياسي للشيعة الإسماعيليين، واتبع مبدأ التقيَّة، فعمل في خفاءٍ تامٍّ، وأحسن اختيار دُعاته وبخاصَّةً مُحمَّد بن أبي زينب مِقلس الأجدع الأسدي المعروف بأبي الخطَّاب(2)، الذي ادَّعى أنَّ الإمام جعفر الصَّادق جعلهُ قيِّمًا ووصيًّا على ابنه. ووضع إسماعيل بمُساعدته أُسس المذهب الإسماعيلي، وهو أوَّل من تصوَّر الإمامة الشيعيَّة على أنَّها سيادة العالم الإسلامي، أي أنَّهُ حوَّل الإمامة إلى معنى سياسيّ شبيه بالخِلافة، ووضع الخِطط السريَّة للوُصول إلى الحُكم.
وضبط مُحمَّد بن إسماعيل المذهب، ونظَّم الدعوة في عهد الخُلفاء العبَّاسيين: أبو عبدَ الله مُحمَّد المهدي، وأبو مُحمَّد موسى الهادي، وبداية عهد هٰرون الرشيد بمُساعدة حُجَّته ميمون القدَّاح الذي تقول عنه المصادر السُنيَّة أنَّه الديصاني ثنويّ المذهب، الذي أسلم أو أظهر الإسلام مدفوعًا بعاملين: سياسي يتمثَّل بإعادة النُفوذ إلى الفُرس عن طريق الشيعة، وديني يهدف إلى هدم الدين الإسلامي عن طريق الفلسفة الإغريقيَّة، وانتسب إلى الدَّعوة الإسماعيليَّة وأضحى من كبار الدُعاة. ويُرجع الإسماعيليّون نسبه إلى الصَّحابيّ سلمان الفارسيّ. وطوَّر أُسس المذهب، ووضع الخِطط التي أوصلت الفاطميين إلى الحُكم، ونظرًا لأنَّه كان أحد تلامذة الفلسفة الإغريقيَّة، فقد استغلَّ التعاليم الأرسطاليسيَّة والأفلاطونيَّة لوضع التعاليم الإسلاميَّة في قالبٍ جديدٍ، وأسس حركةً سريَّةً لإحاطة الأئمَّة بستارٍ كثيفٍ. ويبدو أنَّ الإقامة في المدينة المُنوَّرة أو عاصمة الخِلافة، أو أيُّ حاضرة من الحواضر المشرقيَّة أضحت مُستحيلة بعد حملة الاعتقالات التي نفَّذها الخليفة هٰرون الرشيد، فغادر مُحمَّد بن إسماعيل إلى فرغانة ثُمَّ نيسابور حيثُ تزوَّج وأنجب ابنه عبدُ الله الرضيّ الذي تولّى الإمامة بعده، ونصب له حجبًا وأمرهم بأن يتسمّوا باسمه للتستّر عليه.
وخلف ميمون القدَّاح بعد وفاته ابنه عبدُ الله، وكان حجَّة للإمام عبدُ الله الرضيّ بن مُحمَّد بن إسماعيل، فتابع عمل أبيه، واستطاع أن يجمع مُعظم الفِرق العَلَويَّة المُنقسمة على نفسها في جبهةٍ واحدة، وضمَّ إلى جماعته كُلُّ العناصر السَّاخطة على العبَّاسيين ليُشكِّل منهم جماعة تُخلص لإسماعيل بن جعفر، مدفوعًا بشعوبيَّته الفارسيَّة المُتطرِّفة ضد العرب، ثُمَّ نقل مقرُّ الدعوة والإمام عبدُ الله الرضيّ وابنه أحمد إلى مدينة الأحواز. وعندما انتقل الإمام إلى بلدة سلميَّة في الشَّام بين حمص وحماة في أواخر عهد الخليفة العبَّاسي أبو جعفر عبدُ الله المأمون خشيةً من مُلاحقة العبَّاسيين له، ظلَّ حُجَّته عبدُ الله القدَّاح يُقيم في الأحواز تستُرًا عليه، ثُمَّ لحق به إلى سلميَّة التي أضحت مركز الدعوة الإسماعيليَّة. اشتهر لعبدِ الله القدَّاح ثلاثة أولاد، هم: أحمد والحُسين وعليّ، اعتمد عليهم في نشر الدعوة الإسماعيليَّة. فجعل ابنه الحُسين في سلميَّة مع الإمام الحسين بن أحمد لزيادة التستّر عليه. وكان أحمد المُلقَّب بأبي الشلعلع مسؤولًا عن الدعوة في العراق والأحواز، فادَّعى أنَّهُ من نسل عُقيل بن أبي طالب لاستقطاب الشيعة، وكان قد أحكم النسب في البصرة. واختصَّ الابن الثالث عليّ بنشر الدعوة في خُراسان، ونهايته مجهولة. وعندما توفي الحُسين بن عبدُ الله القدَّاح، عهد أبوه عبدُ الله إلى ابنه أحمد برئاسة الدعوة في سلميَّة بالإضافة إلى العراق، ثُمَّ انتقلت إليه رئاسة الدعوة بعد وفاة أبيه، وأصبح وصيًّا على ابن أخيه سعيد بن الحُسين الذي تقلَّد منصب الحجَّة أو نائب الإمام عقب وفاة عمِّه أحمد، ولم يكن قد تجاوز العشرين من العُمر، فأظهر إخلاصًا وتفانيًا للمذهب الإسماعيلي، ولذلك كان موضع ثقة الإمام المستور الذي قلَّده إمامة الإسماعيليَّة استيداعًا لا استقرارًا، واتخذ اسم عبدُ الله، وادَّعى أنَّهُ من السُلالة الشيعيَّة، وأنَّهُ المهدي، وهو عُبيدُ الله أوَّل الخُلفاء الفاطميين في إفريقية. وبهذا فإنَّ المصادر سالفة الذِكر تنسب الفاطميين إلى القدَّاحيَّة، وهي مُستقاة من رواية أبي عبد الله مُحمَّد بن عليّ بن رزَّام الطائيّ الكوفيّ في ردّه على الإسماعيليَّة أواخر القرن الرابع الهجري، ونقلها ابن النديم في مؤلفه «الفهرست»، وأخذها عنه من جاء بعده من المؤرخين. أيضًا، هُناك اعترافٌ من شخصٍ عَلَويٍّ عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، هو الشريف أبو الحُسين مُحمَّد بن عليّ بن الحُسين المعروف بأخي مُحسن، ينفي فيه نسب الفاطميين إلى عليّ وفاطمة، ويذكر أنَّ مذهب الإسماعيليَّة لم يكن سوى غشٍ لعبدُ الله بن ميمون القدَّاح الذي استهدف، بفضل تعليمٍ خفيٍّ تدريبيٍّ في سبع درجاتٍ، القضاء على الإسلام.
يرى الإسماعيليَّون وغيرهم من الباحثين أنَّ الطعن الذي تمتلئ به كتب مُخالفيهم من المذاهب الأُخرى قد بُنيت بشكلٍ كبيرٍ على التنكيل وتعمُّد الاستناد إلى معلوماتٍ غير صحيحة. وهذا يحصل لأسبابٍ دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ بسبب قيام الدولة الفاطميَّة وسيطرتها على أنحاء واسعة من الديار الإسلاميَّة، وأيضًا بسبب السريَّة الكبيرة التي تميَّزت بها الحركة الإسماعيليَّة حيثُ أنَّ دراسة الإسماعيليَّة كانت تنحصر بالمصادر والروايات التي أنتجها أعدائهم. حسب المصادر الإسماعيليَّة فإنَّ جعفر الصَّادق قد أعطى الإمامة إلى ابنه الأكبر إسماعيل الذي توفي سريعًا بعد ذلك، فانتقلت الخلافة بعده إلى ابنه مُحمَّد. وبسبب قمع الدولة العباسيَّة ومحاولتها الحثيثة لاغتياله، بدأ مُحمَّد مرحلةً مُهمَّةً وأساسيَّةً في تاريخ الإسماعيليَّة والمعروفة «بمرحلة الستر» حيثُ عمد إلى ترك المدينة المُنوَّرة وإخفاء هويَّته عن عامَّة الناس إلَّا عن قلَّة قليلة من الذين يثق بهم. ومن أهم هؤلاء ميمون القدَّاح ثم ابنه من بعده عبدُ الله بن ميمون. الذين عملوا بشكلٍ كبيرٍ على حماية مُحمَّد بن إسماعيل وكانوا حلقة الوصل بينه وبين عددٍ كبيرٍ من الناس. يرفض المُستشرق المُختص بالدراسات الإسماعيليَّة ڤلاديمير إيڤانوڤ الفكرة القائلة بأنَّ ميمون القدَّاح لم يكن مُسلمًا وانما ديصانيّ يهدف إلى هدم الإسلام، فيقول إنَّ الفاطميين أخفوا أنسابهم وفروع ذوي قُرباهم خوفًا من أعدائهم، وأنَّ قصَّة ميمون وولده هذا ليست إلَّا خُرافةً وأُسطورة. وقد ورد ذكر اسم ميمون القدَّاح وابنه في كتُب الرجال الخاصة بالشيعة الإثنا عشرية لتصف ميمون بأنَّه من أصحاب الإمامين الباقر والصَّادق المُقرَّبين، وتثُني عليه، ويظهر في تلك المصادر أنَّهُ من مكَّة (من بني مخزوم تحديدًا). كما يذكر الذهبي وابن حجر اسم عبدَ الله بن ميمون القدَّاح ويؤكد انتسابه إلى مكَّة وبني مخزوم ويكتفي باعتباره «ضعيف». وفي خطاب المُعز لدين الله إلى داعي السند، ينفي فيه ما ادعاه مناوئية برعاية الدولة العباسيَّة من انتساب الخُلفاء الفاطميين إلى ميمون القدَّاح ويؤكد نسبه إلى عبدُ الله بن مُحمَّد بن إسماعيل، ويُشير إلى أنَّ عبدَ الله بن مُحمَّد كان يُلقَّب «عبدُ الله الميمون».
يُشيرُ بعضُ المؤرخين إلى أنَّ الغُموض والاختلاف والاضطراب يكتنف المصادر المؤيِّدة لنسب الفاطميين إلى عليّ والزهراء، وأنَّ تلك المصادر ليست واحدة دائمًا، إذ يوجد اختلاف في أسماء الأئمَّة، من ذلك أنَّ اسم والد عُبيد الله المهدي غير مُتفق عليه بين هذه المصادر. فثمَّة رواية واحدة تذكر أنَّهُ ابنُ «أحمد» وليس ابنُ «الحُسين»، بل أنَّ عُبيد الله المهدي يظهر أحيانًا بوصفه عليّ بن الحُسين. ففي الرسالة التي أرسلها عُبيد الله المهدي إلى اليمن وكشف فيها النقاب عن نسب الفاطميين وذكر أسماء الأئمَّة المستورين، أظهر النسب الفاطميّ بصورةٍ مُغايرة لما قدَّمه التُراث الإسماعيلي المُتعلِّق بأنساب الفاطميين، فيذكر أنَّ جدّه الأعلى هو عبدُ الله أخو إسماعيل الأكبر، وأنَّ الإمام جعفر الصَّادق عيَّن عبدَ الله وليس إسماعيل وريثًا شرعيًّا له، إذ أنَّ جعفرًا خلَّف أربعة أولاد، هم: عبدُ الله وإسماعيل وموسى ومُحمَّد، وأنَّ صاحب الحق فيهم كان عبدَ الله، ولمَّا أراد هؤلاء إظهار دعوة الحق خشوا من اضطهاد العبَّاسيين، فتسمّوا بغير أسمائهم، فكانوا يحملون ألقابًا، وأحيانًا أسماء حركيَّة تُخفي حقيقتهم، وأطلقوا على أنفُسهم ألقاب: مُبارك وميمون وسعيد. فلقب ميمون الذي أُطلق على أحد أولاد جعفر الصَّادق هو الذي قاد إلى هذا الخلط، وقد علَّل الداعي المُطلق إدريس عمادُ الدين هذا الأمر بقوله: «وَكَانَ الدُّعاةُ أيَّامَ الأئِمَّةِ المِسْتُورِيْن مُنذُ استِتَارِ الإمَامِ مُحَمَّد بن إسْمَاعِيل، يُسَمُّونَهُم بِغَيْرِ أسْمَائِهِم، وَيَخْتَلِفُونَ في الأسْمَاءِ إخْفَاءً لِأمْرِ الله، وَسَتْرًا لِأوْلِيَائِهِ لِتَغَلُّبِ الأضَّدَادِ، وَقُوَّةِ أهْلِ العِنَادِ، لِذلِكَ وَقَعَ الاخْتِلَافُ في الأئِمَّةِ المَسْتُورِين، وَكَثُرَ خَوْضُ الخَائِضِين وَقَوْلُ القَائِليْن». وبناءً عليه فإنَّ تسلسل الأئمَّة يُصبح كالآتي: عبدُ الله بن جعفر الصَّادق، ثُمَّ عبدُ الله بن عبدُ الله، ثُمَّ أحمد بن عبدُ الله، ثُمَّ مُحمَّد بن أحمد، وتسمَّى كُلُّ واحدٍ من هؤلاء بمُحمَّد لأنَّ المهديّ سيكونُ مُحمَّد بن إسماعيل، فكان كُلَّما قام فيهم إمام تسمّى بمُحمَّد باستثناء عبدُ الله بن جعفر، فقد تسمّى بإسماعيل، إلى أن يظهر صاحب الظُهور الذي هو مُحمَّد بن إسماعيل، فتزول التقيَّة.
ويُشيرُ جعفر بن منصور اليمني الذي حفظ هذه الرِّسالة، أنَّ الإمام مُحمَّد بن أحمد أوصى إلى ابن أخيه، وأعطاهُ باختيار الله، أمره كُلُّه، وتسمَّى بسعيد بن الحُسين، وصارت إليه الدعوة زمانًا. فلمَّا آن وقت الظُهور، أظهر مقامه، وأظهر اسم «عُبيد الله»، وظهر معه كذلك أبو القاسم مُحمَّد القائم بأمر الله. ويتوافق نسب عُبيد الله المهدي الذي أورته في رسالته(3) مع ما جاء في بعض كُتب الأنساب والفِرق، فيذكر العلَّامة عليّ بن حزم الأندلُسيّ أنَّ وُلاة مصر قد ادَّعوا في أوَّل أمرهم، إلى عبدُ الله بن جعفر بن مُحمَّد، فلمَّا صحَّ عندهم أنَّ عبدَ الله لم يعقب إلَّا ابنةً واحدة اسمها فاطمة، تركوه وانتموا إلى إسماعيل بن جعفر بن مُحمَّد. ويذكر النوبختي والقِمّي أنَّ عبدُ الله لم يُخلِّف أولادًا، ولكنَّ الثاني يذكر في مكانٍ آخر أنَّ عبد الله وُلد له ولدٌ اسمه مُحمَّد، وأنَّه أرسله إلى جهة اليمن، وانتقل بعد وفاة والده إلى خُراسان، وأنَّه الإمام بعد أبيه، وهو القائم بأمر الله. ويذكر الدَّاعي المُطلق إدريس عمادُ الدين أنَّ الإمام عبدَ الله الرضيّ بن مُحمَّد بن إسماعيل استخلف أخاهُ الحُسين مكانه، وأمر أتباعه بطاعته، غير أنَّ الحُسين قُتل في حياة أخيه، فعُهد إلى ابنه أحمد بالإمامة، وهو الإمام التقي أحمد بن عبدُ الله الذي رُزق بولدٍ سمَّاه الحُسين، وهو الإمام الزكي ووالد المهدي. ولمَّا شعر الإمام الحُسين بدُنوّ أجله، عيَّن أخاه مُحمَّدًا المُلقَّب بسعيد الخير وصيًّا على ابنه الإمام المهدي. وأراد سعيد الخير أن يجعل الإمامة في عقبه، ويُحوِّلها عن الإمام المهدي، لكنَّه فشل في ذلك. واستنادًا إلى كتاب التراتيب فإنَّ أسماء الأئمة تختلف عن غيرها ممَّا جاء في غالبيَّة المصادر الإسماعيليَّة وغير الإسماعيليَّة، فذُكر أنَّ إسماعيل ستر على نفسه حجابًا لِعِظم الفترة وتغلُّب الضِّد. وانتسب الإمام الحق بعد إسماعيل إلى ابن أخيه، وهو مُحمَّد. ولمَّا حضرته الوفاة، سلَّم هذا الأمر إلى ولده الرضيّ، وهو أوَّل الأئمَّة المستورين، فقام أحمد بالإمامة، وكان حاجبه الذي احتجب به، وسِتره الذي سَتَره، والذي نصَّبه وأقامه مقامه، هو ميمون القدَّاح، وأمره الإمام أن يأخذ العهد لنفسه، أي لميمون سالِف الذِكر، ففعل ما أمره به الإمام، ولم يزل قائمًا بالأمر إلى أن توفي أحمد، فسلَّم الإمامة إلى ابنه مُحمَّد، وأمر عبدُ الله بن ميمون القدَّاح أن يقوم مقامه، ويأخذ العهد لنفسه كفعل أبيه، فلم يزل قائمًا بالأمر حتّى توفي مُحمَّد، فسلَّم الأمر إلى ابنه أحمد، فعيَّن الأخير أخاهُ إمامًا مُستودعًا، على أن يقوم مقام ولده مُحمَّد المهدي ويكون حاجبًا له، فقام المهدي بالإمامة، وقام عمِّه بالخِلافة. وحاول هذا العمُّ أن يُحوِّل الإمامة إلى أولاده ففشل في ذلك.
وهُناك أمرٌ آخر غير مؤكَّد فيما يتعلَّق بصِلة القرابة بين عُبيد الله المهدي، وبين مُحمَّد القائم بأمر الله الذي خلفه في الحُكم. فقد يكون القائم ليس ابنًا لعُبيد الله المهدي، مع أنَّ الأخير كان يُعدَّه ابنًا له من الناحية الرسميَّة، وكان تصرُّفه تجاهه عندما دخل رُقاده، يُشير إلى أنَّهُ يُعدَّهُ المهدي المُنتظر، فقد عامله بتوقيرٍ شديدٍ، ورفع مقامه عن مقامه هو شخصيًّا. ففي حين تؤكِّد كُتب الظاهر المُوجهة للعامَّة أنَّ الخليفة الفاطميّ الثاني، أي القائم بأمر الله، هو ابن عُبيد الله المهدي، تنفي بعض النُصوص الباطنيَّة المُوجَّهة للخاصَّة والمُطلعين على الأسرار، بُنوَّته إلى عُبيد الله المهدي، وتُنسب الأخير إلى أصلٍ غير عَلَويّ بل ميمونيّ. وعليه، كان دور عُبيد الله المهدي حمل الوديعة، أي الإمامة، ليرُدَّها إلى مُحمَّد القائم بن الحُسين بن أحمد، وبالتالي يكونُ عُبيد الله المهدي الوحيد الذي لا ينتسب إلى عليّ بن أبي طالب. ويقول المُؤرِّخ برنارد لويس أنَّ التناقض بين النسب الرسمي والنسب الذي يربط الفاطميين بميمون القدَّاح مردُّه وجود إمامتين ظهرتا بعد وفاة الإمام إسماعيل بن جعفر الصَّادق: الإمامة المُستقرَّة والإمامة المُستودعة، فالمُستقرَّة بدأت مع مُحمَّد بن إسماعيل وتُفضي إلى القائم بأمر الله، وهي إمامة حقيقيَّة في ذُريَّة الحُسين، أمَّا المُستودعة فقد بدأت مع عبدُ الله بن ميمون القدَّاح وتُفضي إلى عُبيد الله المهدي، وهي إمامة بالوصاية في أعقاب عائلة القدَّاح. والإمامُ المُستقر هو المُؤهَّل لنقل الإمامة إلى ابنه الذي يحجُبه الإمام المُستودع إلى أن يأتي اليوم الذي يُسلِّمها فيه إليه. وبناءً على ذلك، فإنَّ عُبيد الله المهدي، الذي هو الإمام المُستودع، لم يكن سوى الوصيّ والأب الروحيّ لمُحمَّد القائم بأمر الله، الذي هو الإمامُ المُستقر، وقد سلَّمه عُبيدُ الله الإمامة المُستودعة لديه. فالحاكم الأوَّل المكشوف والإمام الفاطميّ الشرعيّ وفق هذا التفسير هو مُحمَّد القائم بأمر الله، أمَّا عُبيد الله المهدي فهو مُستودعه، وينتمي إلى أُسرة القدَّاح. وقد نقض ڤلاديمير إيڤانوڤ نظريَّة برنارد لويس، وقال أنَّها وُضعت أيَّام الأئمَّة المكشوفين لتبرير انتقال الإمامة بالوراثة، وعلى هذا الأساس فإنَّ الخُلفاء الفاطميين بما في ذلك عُبيد الله المهدي، ينتمون إلى نسبٍ علويٍّ صحيح.
كانت شمال أفريقيا أرضًا صالحةً لنصرة المذهب الإسماعيلي، ذلك أنَّ التشيُّع العَلَويّ تركَّز مُنذ نشأته في المشرق، وظهر في بيئة الكوفة مُتعددة الأجناس والقوميَّات، وانتشر بين الموالي، ثُمَّ انتقل غربًا بعد المُلاحقات التي تعرَّض لها الشيعة من قبل العبَّاسيين، وكانوا جميعًا من فرع الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وتمركزوا في شمال أفريقيا حيثُ ضعُفت السيطرة العبَّاسيَّة لبُعد المسافة عن مركز اتخاذ القرار في بغداد، ولصُعوبة المُواصلات، ونشروا التعاليم المُشتركة للمذهب الشيعيّ ومآثر العَلَويين ممَّا أدّى إلى انتشار هذا المذهب بين البربر الذين أدّوا دور الموالي من الفُرس في المشرق، على الرُّغم من وجود فوارق كُبرى بين الفئتين في طبيعة دعمها للعَلويين بعامَّة، وفي مؤسساتهما ومُنظماتهما، وفي أهدافهما وعقائدهما. ورُبَّما كان العطف على آل بيت الرسول مُحمَّد، والاعتقادُ بفضائلهم، كبيرًا في المغرب من أيِّ مكانٍ آخر، وقد أتاح للأدارسة السَّيطرة على المغرب الأقصى بدون مشقَّة وتأسيس دولتهم المُستقلَّة. كما اشتمل المغرب الأوسط في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، باستثناء الأراضي التابعة لإمام تاهرت، على إماراتٍ شيعيَّةٍ بلغ عددها تسعُ إماراتٍ، ممَّا هيَّأ الأرضيَّة الخصبة لزرع وتنمية الدعوة الشيعيَّة. لكنَّ المذهب الإسماعيلي دخل إلى إفريقية بصورةٍ أكثر تنظيمًا وسريَّةً قبل نحو مائةٍ وخمسةٍ وثلاثين سنة من قُدوم أبي عبدِ الله الدَّاعي، وذلك في أواسط القرن الثاني الهجري المُوافق للقرن الثامن الميلادي، وتركَّز في ديار القبيلة البربريَّة كتامة في المغرب الأوسط، التي عُرفت بأنَّها أكثرُ القبائل عددًا وأصعبها مُراسًا، إذ كانت تسكُن جبال الأوراس الوعرة في شمال إفريقية، وهي البلادُ المُمتدَّة من طرابلس الغرب إلى طنجة.
مرَّت الدعوة الإسماعيليَّة في بداية انطلاقتها، بمرحلتين: مرحلة الإعداد العقائدي النظري، وتولَّاها اثنان هُما أبو سُفيان الحسن بن القاسم وعبدُ الله بن عليّ بن أحمد، المشهور بالحلواني، ومرحلة الدور العمليّ، وقامت على أكتاف الدَّاعي أبي عبد الله المُحتسب المشهور بالشيعي الصنعاني. ففيما يتعلَّق بالمرحلة الأولى، فقد بعثت القيادة في المشرق أبا سُفيان والحلواني إلى شمال أفريقيا سنة 145هـ المُوافقة لِسنة 762م، وأمرتهما بأن يُبسطا ظاهر علم الأئمَّة وينشُرا فضلهم، وأن يتجاوزا إفريقية إلى حُدود بلاد البربر، وأن لا يعملا في منطقةٍ واحدة. وقد رجَّح البعض أن يكون الإمام جعفر الصَّادق نفسه هو من أرسلهما وزوَّدهما بهذه التعليمات. استقرَّ أبو سُفيان في قريةٍ زراعيَّةٍ يُقال لها «تالة» وهي من ضواحي قرية مرماجنَّة الهواريَّة البربريَّة، وتقع إلى الشمال من مدينة تونس المُعاصرة، وتشغلُ مركزًا تجاريًّا هامًّا، فابتنى فيها مسجدًا وتزوَّج بامرأةٍ من أهلها واشترى عبدًا وأمة، وعاش حياةً مثاليَّة زاهدة، واشتهر بالفضل والعِبادة والذِكر، ممَّا لفت إليه الأنظار، فهرع إليه سُكَّانُ المناطق المُجاورة يسمعون فضائل أهل البيت منه، ويأخذونها عنه. ودعا إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا من آل البيت، وبشَّر بقرب ظُهوره ونعتهُ بالمهدي المُنتظر، وأضحت مرماجنَّة، بتأثيره، دار هجرةٍ للشيعة. وبفضل موقع المدينة التجاري، استقطب أبو سُفيان التُجَّار وأدخلهم في دعوته التي انتقلت بعد ذلك إلى مدينة نفطة، وكثُر فيها التشيُّع حتّى غدت تُعرفُ باسم «الكوفة الصُغرى»، ثُمَّ انتشر المذهب الشيعي في الأربس شمالًا. بالمُقابل، توغَّل الحلواني في بلاد البربر، واستقرَّ في الناظور على مشارف أرض قبيلة كتامة البربريَّة، أقوى قبائل تلك الناحية. وسلك نهج زميله أبا سُفيان، فاشتهر ذكره، وأقبل النَّاسُ عليه، وتشيَّع كثيرٌ منهم على يديه وبخاصَّةٍ من قبائل كتامة ونفزة وسماتة، وكان يقولُ لهم: «بُعِثْتُ أنَا وَأَبُو سُفْيَانَ، فَقِيْلَ لَنَا: «إذْهَبَا إلَى المَغْرِبِ، فَإنَّكُمَا تَأْتِيَانِ أَرْضًا بُوْرًا فًاحْرِثَاهَا وَأَكْرِبَاهَا وَذَلِّلَاهَا إلَى أن يَأْتِيْهَا صَاحِبُ البّذْرِ فَيَجِدُهَا مُذَلَّلَةٌ، فَيَبْذِرُ حَبَّهُ فِيْهَا»». وتوفي أبو سُفيان قبل وصول الدَّاعي أبي عبد الله الشيعي(4)، أمَّا الحلواني فعاش دهرًا طويلًا ومات في الناظور تاركًا ابنة وعددًا من المعارف، عاش بعضهم طويلًا وأدركوا وصول الدَّاعي أبي عبد الله.
خلال تلك الفترة، كانت القيادة الإسماعيليَّة في سلميَّة قد أرسلت الداعي أبو عبد الله سالِف الذِكر إلى اليمن ليتدرَّب على يد الحسن بن فرج بن حوشب بن زادان، أبرزُ دُعاة تلك البلاد، فاستقبله وقرَّبه منه، وكان قد تعرَّف عليه في الكوفة. ولم تمضِ أكثر من سنة، حتَّى انضمَّ أبو عبد الله إلى قافلة الحُجَّاج اليمنيين وخرج معهم إلى مكَّة في سنة 279هـ المُوافقة لِسنة 893م. ذلك أنَّ رؤساء الدعوة الإسماعيليَّة اتفقوا بعد مُشاوراتٍ مُستفيضةٍ على إرساله إلى المغرب لمُتابعة العمل بعد وفاة أبي سُفيان والحلواني، والاستيلاء على الحُكم بمُساعدة قبيلة كتامة. وصل أبو عبد الله إلى مكَّة، واجتمع بحُجَّاج كتامة في مِنى، وكانت الجماعة الكتاميَّة تضم شخصين ينتميان إلى بطنٍ كبيرٍ من بطون كتامة، هما حُريث الجميلي وموسى بن مكارم، اللذين اعتنقا المذهب الشيعي بتأثير الحلواني، ودار حديثٌ مُطوَّلٌ بين الطرفين حول فضائل الإمام عليّ وبنيه، وتكرَّرت اللقاءات وتزايد إعجاب الكتاميين بصديقهم الجديد. ولمَّا انتهى موسم الحج، واستعدّوا للرحيل، غادر أبو عبد الله مع الكتاميين مُتظاهرًا بالتوجه إلى مصر، وخلال الرحلة استقى منهم بعض المعلومات المُتعلِّقة بوضعهم السياسي والاجتماعي، وكُل ما من شأنه أن يُفيد مُهمَّته، ولم يكشف لهم عن نواياه ودوافعه الحقيقيَّة. ولمَّا وصلوا إلى مصر، تظاهر بأنَّهُ يُريد الإقامة فيها لتعاطي مهنة التعليم، فاقترحوا عليه أن يسير معهم إلى بلادهم ليُعلِّم أبناءهم، ووعدوه بمُساندته ومنحه مزايا أكثر مُلائمةً، فاعتذر ببُعد المسافة، ووعدهم باقتفاء أثرهم إن خابت آماله في الحُصول على عملٍ كمؤدبٍ في الكُتَّاب، فغاب عنهم بعض الوقت ثُمَّ عاد وقال لهم أنَّه لم يجد في تلك البلاد ما يُريد، وأنَّه قرر السير معهم إلى المغرب. مكث أبو عبد الله الشيعي في قلعةٍ صغيرةٍ يُقالُ لها «إيكجان» تقعُ في فج الأخيار قُرب قسنطينة وتُقيمُ بها قبيلة سكتان البربريَّة، وأخذ يعمل على دعوة الناس إلى اعتناق المذهب الإسماعيلي، فأحرز نجاحًا كبيرًا وتخطَّت شهرته حدود إيكجان، رُغم مُعارضة بعض زُعماء القبائل الذين خشوا على سُلطانهم ونُفوذهم. ومع اتساع نطاق الدعوة وتكاثر عدد المُنضوين إليها، كان من الطبيعي أن تتولَّد ردود فعلٍ عنيفة لدى بعض أصحاب السُلطان في بلاد البربر ولدى صاحب إفريقية. وعند هذه المرحلة بلغت مُهمَّة الداعي أبي عبد الله الروحيَّة ذُروة الحسم، وأصبحت مقرونة بمُهمَّة دُنيويَّة خالصة، ذلك أنَّهُ لم يعد فحسب الزعيم الديني للمجموعة التي اجتهد في تكوينها في إيكجان، بل أصبح على أهبة التحوّل إلى زعيمٍ سياسيٍّ يسعى إلى بعث حركةٍ ثوريَّةٍ في إفريقية ضدَّ السُلطة الأغلبيَّة.
انفجر الصراع بين الأغالبة والدَّاعي أبي عبد الله بسبب موقف حاكم مدينة ميلة من الدعوة الإسماعيليَّة في أرض كتامة. وكانت ميلة تحت حُكم موسى بن عيَّاش الذي اشتهر بعدائه لأبي عبد الله الشيعي، خشيةً على مركزه، وشارك في جميع المؤامرات التي حاكها الأغالبة للتخلُّص منه. وكانت ميلة المذكورة تُشكِّلُ مركزًا عربيًّا في قلب بلاد كتامة البربريَّة، وكانت الأُسر الحاكمة العربيَّة في المغرب تُوالي السُلطة المركزيَّة في بغداد، لذلك كانت أوَّل عائق أمام انطلاق الدعوة إلى الخارج، ولا بُدَّ من تذليلها، فشنَّ عليها الداعي حربًا وانتصر على حاميتها العسكريَّة، ودخلها خلال شهر ذي القعدة من سنة 289هـ، المُوافق فيه شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 902م، وولّى عليها أبا يُوسُف ماكنون بن ضُبارة الأجاني. وهكذا سقطت أوَّل مدينة أغلبيَّة مُحصَّنة في يد الدَّاعي. لكن سُرعان ما استعادها الأغالبة مُجددًا، بعد أن هزموا جيش الدَّاعي في بلدة «ملوسة». وخلال شهر رجب سنة 290هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) 903م، اشتبك الأغالبة مع الإسماعيليين في معركةٍ قاسية حالف النصر فيها أبا عبدُ الله، وتراجع الجيش الأغلبيّ بعد الهزيمة إلى سطيف، وفي أوائل سنة 291هـ، المُوافقة لأواخر سنة 903م، استأنف الدَّاعي عمليَّاته العسكريَّة، فاستولى على سطيف، وهي أقرب مدينة مُحصَّنة من إيكجان بعد ميلة، وكانت مدينةً مُعرقلةً لتحرُّكاته العسكريَّة، وتُمثِّلُ قاعدةً لقوَّات العدو. وفي آخر شهر ذي الحجَّة سنة 293هـ، المُوافق فيه شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 906م، استولى أبو عبد الله على مدينة «طُبنة» في طرف إفريقية، وهي قاعدة نهر الزَّاب الكبير، وإحدى أكبر وأغنى المُدن الأغلبيَّة بعد القيروان، وعيَّن عليها عاملًا شيعيًّا هو يحيى بن سُليمان، كما فتح بلزمة. وبسقوط هاتين المدينتين، نجح الإسماعيليّون في فتح ثغرة في الحُصون الغربيَّة التي تحمي إفريقية، ولم يبقَ منها سوى حصن باغاية في أقصى إفريقية بين مجَّانة وقسنطينة، الذي يؤدي إلى داخل البلاد، ولا بُدَّ من مُهاجمته. وفي سنة 296هـ المُوافقة لِسنة 908م، هاجم الدَّاعي وجُنوده وأتباعه الحصن المذكور واستولوا عليه، ثُمَّ تحرَّكوا قاصدين الأربس وهزموا الجيش الأغلبيّ هزيمةً قاصمة ودخلوا المدينة عنوةً، فاستولى الهلع على أمير إفريقية أبو مُضر زيادة الله الثالث وكِبار رجال دولته وأصحاب الدواوين والموالي والعبيد، فانسحبوا إلى القيروان وسوسة وبعض المُدن الأُخرى. ولمَّا وصلت أخبار هروب زيادة الله الثالث، وما حصل في دولته من الفوضى، إلى مسامع أبي عبد الله الشيعي، تحرَّك بسُرعةٍ باتجاه القيروان ورقَّادة واستولى عليهما، وأبطل ذِكر اسم الخليفة العبَّاسي في خِطبة الجُمعة. وبهذا زالت الدولة الأغلبيَّة وبالتالي سُلطة العبَّاسيين الإسميَّة والفعليَّة عن هذه البلاد، ودخلت إفريقية في مرحلةٍ جديدةٍ من تاريخها.
نجح الدَّاعي أبو عبد الله بالقضاء على دولة الأغالبة في إفريقية سنة 296هـ الموافقة لِسنة 908م، بعد حربٍ شديدة دامت خمس سنوات. ثُمَّ التفت بعد هذا النجاح إلى العمل على إصلاح النظام السياسي في إفريقية بعد الفوضى التي نجمت عن إنهيار الدولة الأغلبيَّة، فحرص على إقامة نظامٍ جديدٍ وإضفاء الصبغة الشيعيَّة على مؤسسات الدولة الجديدة، وتركيز السُلطة في يده. فأمَّن الناس على حياتهم وأرزاقهم ومُمتلكاتهم، وأقرَّ عدَّة إجراءات لتهدئة وتأمين كُل خائفٍ كان يتولّى منصبًا في الدولة الأغلبيَّة، فاطمأنَّ إليه الكثير من الرجال ودخلوا في خدمته، وأوصى دُعاته الكتاميين أن لا يُكرهون أهل السُنَّة على التشيُّع، وأن يستعملوا معهم الإقناع عوض ذلك، وكان يُردد قولهُ المعروف: «إنَّ دَوْلَتُنَا دَوْلَةُ حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، وَلَيْسَتْ دَوْلَةَ قَهْرٍ واستِطَالَةٍ، فَاتْرُكُوا النَّاسَ عَلَى مَذَاْهِبِهِم، وَلَا تُلْزِمُوْهُم بِاتِّبَاعِ الدَّعْوَةِ الهَادِيَةِ المَهْدِيَّة». وعاش حياةً مُتواضعةً بعيدةً عن أُبَّهة المُلك، فشعر النَّاسُ أنه قريبٌ منهم، وأضاف عدَّة علامات عقائديَّة شيعيَّة على نمط الحياة اليوميَّة، فأمر بأن تتضمَّن خِطبة الجُمعة الصَّلاة على الرسول مُحمَّد وعلى آله وعلى أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب وولداه الحسن والحُسين، وزوجته فاطمة الزهراء، وأن يُزاد في الآذان عِبارة «حيَّ على خيرِ العمل». وأنفذ أبو عبد الله الدَّاعي الرُسل إلى سلميَّة، يُخبرُ الإمام المستور (عُبيد الله المهدي) بما فُتح من المُدن والأقاليم، ويدعوه للحُضور إلى إفريقية. وفي الأساس، حدثت عدَّة تطوُّراتٍ سياسيَّةٍ خِلال تلك الفترة دفعت الإمام عُبيد الله المهدي إلى مُغادرة مركز الدعوة في سلميَّة(5)، فخرج في شهر رجب سنة 289هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) سنة 902م مُصطحبًا معه القائم وعددٌ من أتباعه، ويمَّم وجهه صوب المغرب. ولمَّا وصلت هذه الجماعة إلى سجلماسة أقامت في ضيافة واليها حينًا من الزمن قبل أن يُلقي القبض عليها بعد أن اكتشف أمرها. وفي يوم الخميس 15 رمضان سنة 296هـ المُوافق فيه 7 حُزيران (يونيو) سنة 909م، خرج الدَّاعي أبو عبد الله على رأس جيشٍ كبيرٍ لاستقدام عُبيد الله المهدي وتنصيبه على العرش، ففتح بطريقه تاهرت وقضى على الإمارة الرُستميَّة، ثُمَّ تابع زحفه ووصل إلى سجلماسة يوم السبت في 6 ذو الحجَّة المُوافق فيه 6 آب (أغسطس) من السنة سالِفة الذِكر. اشتبك الجيش الإسماعيلي مع قوَّات والي سجلماسة وأنزل بها هزيمةً فادحة، وفي اليوم التالي دخل الدَّاعي المدينة وأطلق سراح المهدي ورجاله. مكث عُبيد الله المهدي مُدَّة أربعين يومًا في سجلماسة، توجَّه بعدها إلى إيكجان وأقام فيها. ثُمَّ خرج من إيكجان إلى رقَّادة فوصلها يوم الخميس 20 ربيع الآخر سنة 297هـ المُوافق فيه 6 كانون الثاني (يناير) سنة 910م، واستقرَّ في قصر الصحن الذي كان الدَّاعي قد أقام به من قبل، وذُكر اسمه على المنابر يوم الجُمعة، وتلقَّب «بالمهدي أمير المؤمنين»، وأبطل ذِكر اسم الخليفة العبَّاسي في الخِطبة. وهكذا نجح الشيعة الإسماعيليّون في إقامة دولتهم في شمالي أفريقيا بأقسامها الثلاثة: طرابلس الغرب وإفريقية والزَّاب.
بعد أن استقرَّت أمور الفاطميين في إفريقية، أرادوا توسيع دولتهم لتضمَّ المغرب الأقصى (مُرَّاكش)، وقد تمكنوا من بسط سيطرتهم على معظم أنحائه بعد نزاعٍ مع حكَّامه الأدارسة، إذ تمكن القائد الفاطمي «موسى بن أبي العافية» من هزيمتهم سنة 312هـ. وقد تمرَّد بن أبي عافية على الفاطميّين بعد فتح المغرب، وحوَّل ولاءه إلى عبدُ الرحمٰن الناصر لدين الله أمير الأندلس الأمويّ، لكن عُبيد الله المهدي أرسل ابنه «أبا القاسم» سنة 315هـ فتمكَّن هذا الأخير من استعادة سيطرة الفاطميّين على المغرب. اضطرَُ الفاطميون لاحقاً لخوض حروبٍ كثيرة مع الخوارج بالمغرب، فقد ثار عليهم خارجيٌّ يدعى «أبا زيد» انتشرت ثورته انتشارًا كبيرًا، وتوفيَّ خلال أيام هذه الثورة عبيد الله، فورث عنه حكم دولة الفاطميين ابنه أبو القاسم مُحمَّد القائم بأمر الله، واستمرَّ بمحاربة الخوارج، لكنه توفي سنة 334هـ دون تمكِّنه من هزيمتهم. فخلفه ابنه المنصور بنصر الله الذي تمكَّن أخيرًا من القضاء على ثورة أبي يزيد في سنة 336هـ، وأسَّس مدينة «المنصوريَّة» بإفريقية ليجعلها عاصمة الفاطميين. توفي الخليفة المنصور سنة 341هـ، فخلفه ابنه المعز لدين الله، رابع الخلفاء الفاطميّين وأحد أهم حُكاَّم الدولة الفاطمية.
كانت تحكم مصر في زمن ظهور الفاطميين الدولة الإخشيدية، ومنذ بداياتهم حاولوا عدَّة مرة الاستيلاء على مصر، فأرسلوا إليها حملاتٍ عسكريَّة في سنوات 302 و307 و321 و322 و332هـ، وقد تمكَّنت بعض هذه الحملات من السيطرة على أجزاءٍ كبيرة من البلاد، بل إنَّ بعضها نجحت بالاستيلاء على الإسكندرية، إلا أنَّ الفاطميين كانوا يضطرُّون للانسحاب في كلِّ مرَّة أمام جيوش محمد بن طغج الإخشيدي. رغم ذلك، كان هناك دعاةٌ منتشرون في مصر طوال العهد الإخشيديّ، يدعون الناس لاتباع الدولة الفاطميَّة. إلا أنَّ الدولة الإخشيدية قد شهدت مع موت أحد آخر حكامها أبي المسك كافور الإخشيديَّ (سنة 357هـ) انحدارًا كبيرًا وانهيارًا اقتصاديًا شديدًا، فانتشر الغلاء والمجاعات والأمراض، وكثر الموت بين الناس. أدَّت هذه الأحوال المتردية إلا سخط أهل مصر على الإخشيديين، ووصلت أنباء هذه الحال إلى معز الدين الفاطميّ، فبادرَ على الفور باستغلال الفرصة بإرسال جيشٍ فاطمي على رأسه جوهر الصقلي لضمِّ مصر إلى دولته. لم يبدي المصريُّون أيَّ مقاومة تذكر للفتح الفاطمي نتيجة هذه الأوضاع، وقد استبشروا بقدوم حكامٍ جددٍ لهم عوضًا عن الإخشيديين، خصوصًا بعد خطبة قالها جوهر الصقلي باسم معزّ الدين الفاطمي عندما دخل مصر، فقد قدَّم في هذه الخطبة وعوداً عديدة بينها تجديد سكَّة النقود لتجنُّب الغش فيها، وتخفيف الضرائب الشديدة التي فرضها الإخشيديون، وحماية المصريّين من خطر دولة القرامطة بالمشرق، ومنح أهل السنَّة الحرية بممارسة مذهبهم على طريقتهم. جهَّز الفاطميون جيشًا من 100,000 جندي لأخذ مصر بقيادة جوهر الصقلي، وقد كان هذا الجيش متعددًا عرقيًا بدرجةٍ كبيرة، إذ اشتمل على رجالٍ من البربر والصقالبة والروم والسودان، وصرف معزُّ الدين الفاطمي عليه ملايين الدنانير. وصل جوهر الصقلي أول دخوله مصر إلى بلدةٍ تسمَّى «منية الصيادين» تقع قربَ الإسكندرية، فاستقبله وفدٌ من أهلها على رأسه وزيرٌ إخشيديٌّ بارز يُدعَى «جعفر بن الفرات»، فسلَّموا له وقبلوا بأخذه بلادهم دون مقاومة.
إلَّا أنَّ الحاكم الإخشيدي «أبا الفوارس بن الإخشيد» رفض الاستسلام، وبدأ بجمع جيشٍ لالتقاء الفاطميين، فسارعَ جوهر بالذهاب إلى قاضٍ معروف بالإسكندرية يدعى «أبا الطاهر محمد بن الأحمد» واستشاره بما يفعله مع الإخشيديين متذرِّعاً بالجهاد قائلًا: «مَا تَقُوْلُ فِيْمَن أرَادَ العُبُوْرَ إلى مِصْرَ لِيَمْضِيَ إلى الجِهَاد لِقِتَالِ الرُّوْمِ، فَمُنِعَ، أَلَيْسَ لَهُ قِتَالِهِمُ؟»، فوافق القاضي، وأصدر فتوى تحلُّ له قتال الإخشيديين. قاد ابن الإخشيد جيشًا إلى وراء النيل في جهةٍ قريبةٍ من الجيزة، والتقى هناك بجيش جوهر، إلا أنَّ الفاطميين سرعان ما انتصروا انتصارًا كبيرًا، ودخلوا الفسطاط بسهولة، ثم فتحوا ما تبقَّى من مصر دون مقاومةٍ تذكر، وقد فرح الناس بهزيمة ابن الإخشيد بعد ما عانوه بسببه، ونهبوا قصور الإخشيديين بعد أن فرَّ هؤلاء إلى بلاد الشام.
أمر جوهر الصقليُّ فور ضمِّ مصر ببناء مدينةٍ جديدةٍ ليستقرَّ فيها جنوده، وذلك تجنُّباً لأيّ مشاكل أو توترات قد تنجم عن اختلاط العساكر بأهل البلاد. وقد قسَّم المدينة الجديدة إلى أقسامٍ ليفصل كل مجموعةٍ عرقيَّة عن الأخرى، فكان هناك حيٌّ خاص بالبربر، وواحد للصقالبة، وآخر للروم، وهلُمَّ جرًا. وبعد أن استقرَّت الأمور في مصر، قرَّر معز الدين نقل عاصمة دولته من المهديَّة بإفريقية إلى هذه المدينة الجديدة، وهكذا تأسَّست مدينة «القاهرة المعزِّيَّة» في 17 شعبان سنة 358 هـ(6) ودخل معز الدّين الفاطمي مصر في سنة 362هـ المُوافقة لسنة 972م، لتصبح مقرَّ حكم الفاطميين حتى نهاية دولتهم. قبل أن يرحل المعزّ لدين الله عن إفريقية لينتقل إلى عاصمته الجديدة في مصر، عيَّن بلكين بن زيري واليًا عليها مكانه، وكان ذلك في سنة 362هـ المُوافقة لسنة 972م. وقد استولى أبناؤه من بني زيري على مجمَل شمال أفريقيا فيما بعد، وانقسموا بعد بعض الخلافات الداخلية إلى قسمَين اثنين: «بنو زيري» في إفريقية، و«بنو حماد» في المغرب الأوسط (الجزائر حاليًّا). لكن الزيريِّين استقلوا لاحقًا عن الدولة الفاطميَّة، وحوَّلوا ولاءهم عوضًا عنها إلى الخلافة العبَّاسيَّة في المشرق. بعد أن استقرَّت الأمور في مصر للفاطميِّين، انتقل صراعهم إلى دولة القرامطة في الشَّرق. فقد غزا القرامطة بدعمٍ بويهيٍّ مصر عدَّة مرات، وكادوا يصلون إلى القاهرة، لكنَّ جوهر الصقلي نجح بصدّ هجماتهم. وخلال السنوات الآتية أخذ الفاطميُّون بالتوسُّع تدريجيًّا على حساب القرامطة وباقي الدول الأخرى في المنطقة، فتمكَّنوا من انتزاع بلاد الشام في سنة 363هـ المُوافقة لسنة 973م من الحُسين بن أحمد القرمطي حاكم القرامطة، وضمُّوها حتى مدينة حلب شمالًا بعد القضاء على دولة الحمدانيّين، واستولوا على الحجاز بعد هزيمة أشرافها، فباتت رقعة الدولة الفاطميَّة ممتدّة من المغرب إلى مشارف العراق.
بلغت الدولة الفاطميَّة ذُروة عزِّها وكمالها في عهد الخليفة الخامس، أبو منصور نزار العزيز بالله، وإليه يُعزى تمكين السيطرة الفاطميَّة على مصر والشَّام، ونشر السلام والرَّخاء في مُختلف أرجاء الدولة، التي بلغت في عهده أقصى اتساعها. كان العزيز مسؤولًا عن إرساء الدولة الفاطميَّة وتشكيل هويَّتها، إذ يمكن تشبيه دوره بدور أبي جعفر المنصور في الدولة العبَّاسيَّة، وقد بدأ عهده في سنة 365 هـ الموافقة لِسنة 975م. من بين 270 سنة تقريبًا عاشتها الدولة الفاطميَّة من صعودها إلى سقوطها، يُعتبر أنَّ عصر قوتها الحقيقيَّة استمرَّ لنحو 115 سنةً منها، بعدها قرابة 70 سنةً عاشتها في ازدهارٍ حضاري لكن بضعفٍ سياسي، قبل أن تبدأ بالانحطاط والسُّقوط.
شهد عهد العزيز إنجازاتٍ إدارية وتنظيميَّة متنوعة. فقد رُتِّبت الدواوين بدقَّة لتسهيل الإجراءات الإدارية. وأحاط العزيز نفسه بمظاهر الترف وأغدق الأموال على قصوره وممتلكاته. واستحدث منصب الوزراء، فعمل على اختيار رجالٍ كفؤين لشغل هذا المنصب، إلا أنَّه اختارهم من الطائفتين اليهوديَّة والنصرانيَّة، لكي لا يكون لهم نفوذٌ كبير يسمح لهم بالانقلاب عليه (وقد كان أوَّلهم وأحد أشهرهم يعقوب بن كلس). وكذلك عدَّل تركيبة الجيش العرقية، فقد كان الجيش الفاطمي بأكمله تقريباً مؤلَّفا من البربر، فخشي أن يتكاتفوا معًا عليه إذا ما اضطَّربت الأمور، لذا شكَّل جيشًا جديدًا خاصًا به من الجنود التُرك والأكراد والسُّودان، وكلَّف هذا الجيش بإدارة معظم ولايات دولته عوضًا عن الجيش البربري. وقد وقعت نتيجةً لذلك فتنةٌ في الجيش بين المغاربة والأعراق الأخرى. وقد أراد العزيز أن يكون مذهب الدولة الرسميُّ هو المذهب الإسماعيليّ، فعمل على نشر